جامعة البيان في وصية حافظة القرآن

د . قذلة  محمد  القحطاني

رابط الموقع

http://www.d-gathla.com/

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

فاضتِ المشاعرُ،  وتهلَّلَ الفرح،  وغمرت القلوب السعادة , فاحَ   عبير المسك عبر أرجاء مدرسة الحواش ليزفَّ لنا خبرًا بتمام الـمِنَّة  وقدوم وفد القرآن،  ورفد الإيمان..  أكملَ الله لهم حفظ كتابه، واتصلوا بالسند المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

هممٌ تتنافس لتُعانق الثريا، نجومٌ لاحت في سماء نساء هذا الزمان , سارتْ تواكب الخُطى؛ لتلحق بركْـبِ السَّفَرَة الكِـرام البَرَرَة , فلزِمنَ حِلق النور والطهر، وأعرضْن عن دنيا تزيَّنت بالشهوات والمُغريات . وها قد جاء يوم جني الحصاد نجتمعُ الليلة في ليلة الشكر والحمد لرب العزة  والجلال , فله المحامد كلها , وله  الثناء أبلغه  , ومن الحمد أجله وأعظمه قال تعالى : " قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ  " {يونس 85}  وبهذه المناسبة كتبت وصية وسميتها : ـ

{ جامعة البيان في وصية حافظة القرآن }

نسختها بخيوط من الذهب , وصغتها في عقد من اللؤلؤ ودرر من الياقوت , أهديها لبناتي الغاليات .قال الشاطبي رحمه الله تعالى : ـ

فَيَا أَيُّهَا الْقَارِي بِهِ مُتَمَسِّكاً  

مُجِلاًّ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مُبَجِّلا

هَنِيئاً مَرِيئاً وَالِدَاكَ عَلَيْهِم 

مَلاَبِسُ أَنْوَارٍ مِنَ التَّاجِ وَالحُلا

فَما ظَنُّكُمْ بالنَّجْلِ عِنْدَ جَزَائِهِ  

أُولئِكَ أَهْلُ اللهِ والصَّفَوَةُ المَلاَ

أُولُو الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّبْرِ وَالتُّقَى

حُلاَهُمُ بِهَا جَاءَ الْقُرَانُ مُفَصَّلاَ

فأثبتن على هذا الصراط المستقيم ولا تملن عنه والزمن باب العبودية . مستغيثات دوماً { إياك نعبد وإياك نستعين } فهي قاعدة للثبات عرفت { فالزم } وإياكم والميل يميناً وشمالاً , فأنها أهواء وفتن لا يسلم منها إلا من عصمه الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم   : {  تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وسنتي }وفي الصحيح عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: "{يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ! اِسْتَقِيمُوا فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدً   }

 

{ بنياتي الغاليات }

ـ إن هذا القرآن عزيز قال تعالى : " وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ  " { فصلت : 41 }

ـ فإيكن أن تطلبن على تعلمه مالاً أو وجاهاً أو شيء من حطام الدنيا .قال تعالى : "   يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ  " { البقرة : 121 }

" عن مجاهد قال : (يتلونه حق تلاوته) ، يعملون به حق عمله  .

ـ اجعلن الصدق لباس لكن وتزين بزينة الإيمان والإخلاص والتقوى .

ـ وتخلقن بأخلاق أهل القرآن . قال ابن مسعود رضي الله عنه : ـ

  { ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ،وبنهاره إذا الناس مفطرون ،وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون ، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حكيماً حليماً سكيناً ، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا سخاباً ولا صياحاً ولا حديداً }

قال عبد الله بن عمر و بن العاص :

{  فَلا يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَحِدَّ مَعَ مَنْ يَحِدُّ ، وَلا يَجْهَلْ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ ؛ لأَنَّ الْقُرْآنَ فِي جَوْفِهِ  }

فينبغي له أن يجعل القرآن ربيعاً لقلبه، يعمر به ما خرب من قلبه، يتأدب بآداب القرآن، ويتخلق بأخلاق شريفة يتميز بها عن سائر الناس ممن لا يقرأ القرآن، فأول ما ينبغي له:

 أن يستعمل تقوى الله في السر والعلانية، وذلك باستعمال الورع في مطعمه، ومشربه، وملبسه، فيكون بصيراً بزمانه وفساد أهله، فهو يحذرهم على دينه، مقبلاً على شأنه، مهموماً بإصلاح ما فسد من أمره، حافظاً لسانه، مميزاً لكلامه، إن تكلم تكلم بعلم إذا رأى الكلام صواباً، وإن سكت سكت بعلم إذا رأى السكوت صواباً، قليل الخوض فيما لا يعنيه، يخاف من لسانه أشد مما يخاف من عدوه .

ـ  يطلب الرفعة من الله لا من المخلوقين، ماقت للكبر خائفاً على نفسه منه، لا يتأكَّل بالقرآن، ولا يحب أن تقضى له به الحوائج .

ـ رفيق في أموره، صبور على تعليم الخير، يأنس به المتعلم، ويفرح به المُجالس، مجالسته تفيد خيراً، مؤدب لمن جالسه بأدب القرآن والسنة، أن أصيب بمصيبة فالقرآن والسنة له مؤدبان، يحزن بعلم، ويبكي بعلم، ويصبر بعلم، ويتطهر بعلم، ويصلي بعلم، ويزكي بعلم، وينفق بعلم، ويتمسك في الأمور بعلم، وينقبض عنهما بعلم، قد أدبه القرآن والسنة.

يتصفح القرآن ليؤدب به نفسه , انظر: (أخلاق حملة القرآن) أبي بكر أحمد بن الحسين الأجري  - تحقيق عبد العزيز القارئ ص28)

ـ كوني سداً منيعاً أمام خطرات إبليس ومكايده فأنت هدفه ومقصده , فما يريد بالغافلة اللاهية وأعلمي أن أبوابه ومنافذه كثيرة فأغلقيها بإحكام وعلم , وتسلحي بسلاح العلم والإيمان والتحصين , فهناك مداخل ينفذ بها للوصول إلى قلبك الطاهر وقد يزينها بشيء من الغيرة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وهو يخفي وراءها شباكاً وكميناً يتربص بك  ليوقع فيك  لتصبحي أسيرة  في أسره   .

فقد يزهدك في التعليم بحجة الرياء , ويزهدك في عمل الصالحات خشية السمعة , ولا يزال في طريقه يزين ويحسن ويفتح أبواب الشر حتى يوصلك إلى حال من الضنك والوساوس , فتذهب سكينة القرآن وحلاوته , نعوذ بالله من كيده ووسوسته .

ـ   إن المنة التي أكرمك الله بها تستلزم الشكر , ومن أعظم شكرها العمل بما أوجب عليكم ربكم فيها وتعليمه والصبر على ذلك ولنا في سلفنا قدوة حسنة ..

فها هو عبد الرحمن السلمي يعلم كتاب الله أربعين سنة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم  

عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ لَهُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» .  قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَذَلِكَ أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا  "

ـ ونافع علم القرآن سبعين سنة

ـ حفصة بنت سيرين كانت تقوم كل ليلة بثلث القرآن وعلمت القرآن ثلاثين سنة . روي عن إياس بن معاوية ، قال :"

 ما أدركت أحدا أفضله عليها . وقال : قرأت القرآن وهي بنت ثنتي عشرة سنة ، وعاشت سبعين سنة  .

 فذكروا له الحسن وابن سيرين ، فقال : أما أنا فما أفضل عليها أحدا .

وقال مهدي بن ميمون : مكثت حفصة بنت سيرين ثلاثين سنة لا تخرج من مصلاها إلا لقائلة أو قضاء حاجة . انظر: (سير أعلام النبلاء للذهبي)

ـ وأعرف من  مشايخنا في هذا الزمن من يعلم القرآن 15 ساعة و20 ساعة متواصلة ..

إنها بركات القرآن , والصدق في تعلمه  .

ـ رحبوا بمن يتعلم القرآن على أيديكم ولينوا لهم وقولوا لهم : " مرحباً , مرحباً بوصية  رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ـ كوني قدوة لهم في فعلك قبل قولك فأنت تمثلين الإسلام بسمتك وخلقك وحجابك ومظهرك.

وأخيراً يا قرة العين   أقول عظمي هذا القرآن الذي بين جنبيك وإياك أن يراك الله حيث نهاك ..أن يفقدك حيث أمرك , أو تتامري في حفظ هذا الكنز فيذهب . قال تعالى : { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ   } وينسى ويسرقه العدو , شدي الوثاق وليكن لك معه خلوة وروضة غناء تهرعين إليها بشوق إذا نامت الأعين وغارت  النجوم , تناجين فيها العظيم في عليائه , وترفعين فيها استغاثة قلب ملهوف يتقطع شوقاً لمولاه .

     { يا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ , وَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ  ولا إلى أحد من خلقك  }

 

                                                                                                                                                                                                 كتبته محبتكم

د . قذلة بنت محمد آل حواش القحطاني

فجر الأربعاء 9 شعبان 1439هـ