فضائل البيت العتيق

لهذا البيت والبلد الأمين فضائل منها:

1 - أن الله - سبحانه وتعالى - قضى في سابق علمه أنْ يَضَعَ فيه البذرة الطاهرة من ولد إبراهيم - عليه السَّلام - ليكونوا ركيزةً للإسلام إلى يوم القيامة.

2 - أن الله أمر خليله إبراهيم ببناء البيت؛ ليكونَ مركزَ الدائرة للعالم الإسلامي.

3 - أنَّ الله جعله مرزوقًا يُجبى إليه ثَمرات كل شيء كما مضى ذكره.

4 - أنَّ الله جعل الوحوش والظباء تَجتمع فيه لا يؤذي بعضُها بعضًا.

5 - أنَّ الله نَجَّى البيتَ وسكانه على كفرهم من بطش أصحابِ الفيل، وأهلكهم على قوَّتِهم بما أخبرنا به، وبمشاهدة الأقوام، بطَيْرٍ أبابيل، وهذه من المعجزات، ومن كرامات إبراهيم وابنه محمد - عليهما الصلاة والسلام - ومن بركة دعاء إبراهيم.

6 - أن الله - سبحانه - جعله في أرض قاحلة، وجبال محرقة، لا مياه فيها، ولا زهور ولا ثمار، وذلك لحكمة، بل لحِكَمٍ عظيمة منها:

 - أنْ تظهر فيها قداسة العبادة وروحانيتها، وتتخلص من مظاهر المادية وفتنتها، فلو كانت جبالُ مكة شرَّفها الله وأوديتها، كجبال إيطاليا ونحوها، لَمَا بَقِيَ في القلوب من روحانية العبادة، ولنقصت معاني التألُّه أو تلاشت.

 - أن الله قطع بذلك مطامِعَ الجبابرة الاستعماريِّين أهل الاستغلال والانتهازية.

 - أن الله قطع رجاءَ أهل حرمه عمن سواه، حتى لا يَتَّكلوا إلاَّ على الله، ولكن مع الأسف انقلب سكانه إلى الانتهازية.

 - أنَّ الله جعلها في هذا الموضع وعلى هذه الحالة من قحطِ الجبال وسوء منظرها وانعدام الماء فيها؛ حتى لا يقصدها أحدٌ للنزهة، ولا للتِّجارة، بل ينحصر قصدُها للعبادة، ولذلك جعل شَمسها مُحرقة، وجَوَّها في غاية الحرارة بالنسبة إلى ما حولها من القرى كالطائف وغيره، إلى غير ذلك من الفوائد التي لا نطيل بها المقام.

ومن فضائل هذا البيت أنه مبارك، والبركة لها معنيان:

أحدهما: النمو والتزايد.

ثانيهما: البقاء والدوام.

وهذا البيت مبارَك بجميع المعاني، فإنَّ الطاعات يزداد ثوابُها فيه ويتضاعف، كما صح الحديث أنَّ الصلاةَ فيه بمائة ألف صلاة، ويُقاس عليها باقي الطاعات، وخصوصًا الحج، فقد قال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه))[1]، وقال أيضًا: ((الحج المبرور ليس له ثواب إلاَّ الجنة))[2]، هذا على تفسير البركة بالنماء، أمَّا على تفسيرها بالبقاء والدوام، فإن الكعبة لا تخلو من الطائفين والعاكفين والراكعين والساجدين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صيانة الحج من الرفَث والفسوق

قال تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197]؛ يعني أنَّه من أوجب الحج على نفسه خلالَ هذه الشهور بأن تلبس به، وألزمه نفسه، فليحترم ما التزمه من شعائر الله، وليصُنه من الرَّفث، الذي هو مقاربة النساء ما دام محرمًا، ومن الفسوق الذي هو الخروج عن حدود الشرع بفعل أيِّ مَحظور يخل بإحرامه، خصوصًا ما نص الله عليه في سورة الحج من قوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: 30].

ومن الفسوق الخصومات والفحش واللجاجة بمفهوم النصِّ على ترك الجدال بقوله: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197]، وتنويع هذه المنهيات في الحج من الله بترتيب عجيب، فابتدأ بالرفثَ المفسد للحج حسب ما فصله العلماء، ثُمَّ الفسوق الذي هو الخروج عن أي شيء من حدود الله في الإحرام، ثُمَّ الجدال الذي كان جاريًا بين القبائل في الجاهلية، من التنازُع والتفاخُر والتنابز بالألقاب، فما أجمل هذا التناسُبَ بين الكلمات في هذه الآية الكريمة!

والحكمة في النهي عن هذه الأشياء: هي تعظيم حرمات الله، فإن المتلبس بالحج يكون أولاً في إحرام، ثم تزداد عليه الحرمة بدخوله في الحرم، ثم تزداد بمزاولته لأعمال الحج، فيكون محفوفًا بعظيمِ الحرمات، فيجب عليه أنْ يكونَ على أحسنِ حالة وأكملها لحضوره مع الله في تلك الحُرُمات.

ولهذا ورد الحديث الصحيح[3] عنه r أنَّ الله يباهي ملائكته بالحجاج.

فعلى الحاج ألا يفرطَ في هذا الحظ العظيم؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 197]، فإنَّ في هذه الجملة التفاتة إلى الخطاب، مشعرة بحذف تقديره: اتركوا هذه الأمور التي حرمتها عليكم في الحج؛ لتصفيةِ نُفُوسِكم من أدران المعاصي، وتَحليتها بالطاعة، فإنَّ ما تفعلوه من خَيْرٍ يعلمه الله، ويُزكي به نفوسكم، فيجعل فيها الاستعداد لتحصيل المنافع في الحج، ولا يَخفى عليه - سبحانه - خافية، ولا يضيع من أعمالكم شيئًا، بل يزيدكم على ثوابها توفيقًا لما يريده منكم، فاستبقوا الخيرات، وتنافسوا في الأعمال الصالحات في هذا الموسم العظيم، مَوسم الحج الذي تَجتمعون فيه من جميع الآفاق، فإنَّه مدرسة إسلامية كبرى، كما أنَّه مؤتمر عالمي عظيم.

 

 

وهنا فوائد:

 

أحدها: الحكمة في إجمال النَّهْيِ عن هذه الخصال الثلاثة بقوله - تعالى -: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197]، إنَّ الإنسانَ فيه أربع قوى: قوة شهوانية بهيمية، وقوة غضبية سبعية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية.

والمقصود من جميع العبادات المتنوعة هو قهر القوى الثلاثة؛ أعني: الشَّهوانِيَّة، والغضبية، والوهمية، فنهى الله - سبحانه - عن الرَّفَثِ لقهر الشهوانية، ونَهيه عن الفسوق؛ لقَهْرِ القوة الغضبية، التي توجب التمرُّد والغضب، ونَهيه عن الجدال؛ لقهر القوة الوهمية التي تَحمل الإنسان على الجدال، حتى فيما لا يَجوز، كالمراء في الدين، والجدال في ذاتِ الله أو صفاته أو أحكامه.

وهذه القوة الوهمية الشيطانية هي الباعثة للإنسانِ على مُنازعة الناس ومُماراتِهم ومخاصمتهم، وبهذا يتَّضحُ أنَّ الشر مَحصور في هذه الأمور الثلاثة التي نهى الله الحاج عنها، والله عليم حكيم.

ثانيها: للرفث معنيان: لغوي وعرفي شرعي، فمعناه اللغوي: هو قول الخنا والفُحش، ومعناه العرفي الشرعي: كل ما يتعلق بالجماع كما ورد في آية الصِّيام.

ثالثها: قصر الله إخبارنا عن علمِه بالخير دون الشر، وهو يعلمُ الجميع أنه من عظيم رحمته، وحُسن تربيته لعباده؛ حيث قال: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 197]، ففي ذلك فوائد ولطائف يستحِقُّ عليها مزيدَ الشكر، ومُداومة الذكر.

فمنها وهو ألطفها: إعلامه لنا بستر الشر، وذكر الخير، كأَنَّه يقول: يا عبادي، إذا علمت منكم الخير ذكرته وشهرته، وإذا علمت منكم الشرَّ أخفيته وسترته؛ رَحْمةً بكم في الدنيا والآخرة، إذا طهرتم قلوبكم من مَحبة غيري الموجبة للإشراك.

ومنها: أنه إشعار منه بثوابِ الخير وإكرام صاحبه في الدارين، فكأنه - سبحانه - يقول: كل ما تتحملونه - يا عبادي - من أنواع المشَقَّة والطاعة في الحج قصدًا لوجهي، فأنا عالم به، وسأثيبكم عليه، وهذا من بعض كرمه وتشجيعه لعباده.

ومنها: أن هذا الإعلام يكون فيه تحضيض وتنشيط على فعل الخير والالتذاذ به، كالخادم الذي إذا علم اطلاعَ سيده على جميع فعله، وأنَّه مكافِئُه على النصح، ازداد نصحه ونشاطه مع التذاذه بما يقوم به، فسبحانك اللهُ مِن رحمن رحيم.

 

 

 



[1] متفق عليه من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري في الحج باب مواقيت الحج والعمرة، رقم (1521)، ورقم (1819)، ومسلم في الحج باب: فضل الحج والعمرة، رقم (1350).

[2] متفق عليه من حديث أبي هريرة رواه البخاري في العمرة باب وجوب العمرة، رقم (1773) ومسلم في الحج باب: فضل الحج والعمرة، ح (1349).

[3] أخرجه مسلم في الحج، باب: فضل الحج والعمرة... 2/983 بمعناه.