"وكـــــــم عَــــزَّ أقــــوامٌ بعِزِّ لُغاتِ"!!!

 د. أميرة علي الزهراني – مجلة اليمامة

 حين تفقد لغتك الأم فأنت تفقد كيانك في الوجود، 

ومكانك من هذا العالم المتصارع على البقاء.. 

حين تنقطع صلتك تماماً باللغة الأم، تعود أشبه بـ"اللقيط".. لا أم له!!!

              *****

 التلاميذ الصغار الذين كانوا فيما مضى من السنين ينبطحون على بطونهم ساعتان وثلاث يحاكون خط الرقعة وخط النسخ بدقة متناهية تعرق لها جباههم، وتتورم ألسنتهم لكثرة حفظهم  الأناشيد، ويتدربون مراراً على قراءة نص مادتي "المطالعة" و"القراءة"  ويصغون بانتباه شديد إلى المعلمة أو المعلم وهو يملي عليهم قطعة "الإملاء" كانوا يأخذون المسألة بجدية ونباهة أكثر، لأنهم يدركون قيمة ما يتعلمون من خلال عناية مدرسيهم وآبائهم ومجتمعهم. لقد وصلوا إلى قناعة أن لغتهم العربية هي مصدر كل جميل وشيّق ومثير للخيال، خبروا ذلك في إذاعتهم المدرسية، وفي حفل الآباء والأمهات، وفي مجمل الفعاليات، وفي القصص الممتعة الملهمة التي كانوا يقرأون بشغف. احترمنا لغتنا فاحترمتها الأجيال.

 الآن غدت العربية عند أولادنا وبناتنا شيئاً يثير الخجل والازدراء، يدرسون بالإنجليزية، ويكتبون بالإنجليزية، ويفكرون بالإنجليزية، ويمضون على الأوراق بالإنجليزية، ويحلمون بالإنجليزية. صارت أرقى المدارس هي التي تراهن على نسف العربية بالكامل من عقول طلابنا وتقدم الوعود للآباء والأمهات بأن ما من تهاون في مسألة تكثيف الإنجليزية والحد من تسريب مفردات عربية، وبشتى الوسائل. تعمل المدارس بإصرار وحماس على إثراء معاجم الصغار بالإنجليزية حتى لا تعود مساحة تذكر للغتهم، فتفقد ذاكرتهم أي صلة لهم بالعربية تماماً.. والنتيجة؛ أجيال بكاملها تتحدث وتتكلم بلغة لا تعكس هويتها، و "عرب" يتم إدراجهم في المدارس والجامعات بغير الناطقين بالعربية!!  وإذا كتبوا بالعربية جاءت الكلمات هلامية مبهمة؛ دون نقط، دون وضوح، دون إملاء صحيحة، لا يعنيها أبداً أين تضع الهمزات، أو الفرق بين الضاد والظاء. تمد كل فتحة، وتشبع الكسرة ياءً، لكن تقوم القيامة لو أخطأتَ في  كتابة حرف إنجليزي، أو نطقته على غير لهجة متحدثيها الأصليين!!  

 أصبح كل متطور ومتمدن ليس من يتحدث الإنجليزية بطلاقة فحسب، بل من يشير دائماً في كل حين "أوه.. سوري.. ما أدري إيش معنى هذه الكلمة بالعربي"!!!! وبدا  مدرس العربية في الدراما والسينما مثار الشفقة  والدروشة، وغدا كل من يتحدث العربية الفصحى أو يدعو لها، أو  يدرِّس علومها متخلف رجعي في طريقه إلى المتاحف، أو عالم الديناصورات..

 الآباء الذين يحقنون أولادهم ليل نهار بالإنجليزية، ويبذلون كل طاقتهم في إبادة العربية من أذهانهم، ظناً منهم أن هذا يضمن مدنية وحضارة وأماناً لمستقبلهم، نسوا أن الشعوب التي لا لغة لها تعتز بها في المحافل وفي الحياة وأمام نفسها، لا يمكنها يوماً أن تترقى بلغات غيرها. تعليم أبنائك الإنجليزية  وغيرها من لغات مطلب وواجب وليس رفاهية، لكن ليس على حساب لغتهم، هويتهم.

 حين تفقد لغتك الأم فأنت تفقد كيانك في الوجود، ومكانك من هذا العالم المتصارع على البقاء.. حين تنقطع صلتك تماماً باللغة الأم، تعود أشبه بـــ "اللقيط".. لا أم له!!!