بســم الله الرحمــن الرحيـــم

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه , ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله

أما بعد :

إن من أخطر ما يهدد بناء الإسلام الشامخ ويكيد له بالخفاء ذلك المرض العضال الذي ينخر في جسد الأمة الإسلامية من حيث تظن أنه يعمل في بنائها والمتمثل بصورة أفعى ذات سمٍ زعاف , تسمى ( أفعى النفاق )..

ذلك المرض الخطير الذي يصيب القلوب فيُمرضها ويملأها بغضاً للإسلام وكيداً له , ولكنها جعلت منه ستاراً ووقاءاً لتدخل بين أهله , فتفرق جماعتهم وتستأصل شأفتهم تحت ستار الإصلاح والبناء

قال تعالى : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) ..

وكم عانى النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء المنافقين الذين ما برحوا يثيرون الفتن والقلاقل بين صفوف المسلمين ويحاولون تفريق وحدتهم , ولكن الله رد كيدهم إلى نحورهم وفضحهم في كثير من الآيات , بل سمى سورة باسمهم جعلها فاضحة لهم ..

 

وفيما يلي تعريف النفاق , نشأته , أهدافه , بواعثه , وصفات المنافقين ..

 

تعريف النفاق  :

لــــــغــــــــة :-

 قيل أنه مأخوذ من النّفق وهو سرب مشتق إلى موضع آخر , وقيل أنه مأخوذ من النافقاء وهي جحر الضّب واليربوع ,وقيل :- النفقة والنفقاء موضع يرققه اليربوع من جحره , فإذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فخرج .

قال الجوهري :- " والنافقاء إحدى جحرة اليربوع يكتمها ويُظهر غيرها وهو موضع يرققه فإذا أُتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج " .أ.هـ . انظر لسان العرب ج(10/358)مادة نفق

 

شـــــــرعــــــــاً :-

وهو مخالفة الباطن للظاهر أو هو إظهار الخير وإسرار الشر(تفسير ابن كثير10/83) والمكر والخديعة " والنفاق رخاوة في الطبع وقساوة في القلب وانحراف في الفطرة واحتراف المبدأ وإسراف في الخطيئة " سلسلة من مفردات القرآن صـ82

قال ابن جريج : " المنافق يخالف قوله فعله , وسره علانيته , ومدخله مخرجه , ومشهده مغيبه " . تفسير ابن كثير ج 1/83

قال الكرماني : " النفاق لغة مخالفة الباطن للظاهر فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق كفر , وإلا فهو نفاق العمل ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه " . فتح الباري لابن حجر(1/111)

وعن أبي الأشهب قال : قال الحسن : " من النفاق اختلاف اللسان والقلب , واختلاف السر والعلانية , واختلاف الدخول والخروج " . صفة النفاق وذم المنافقين صـ90

وعن عبد الله ابن عمر أنّه رأى الناس يدخلون المسجد , فقال : من أين جاء هؤلاء ؟

فقالوا : من عند الأمير .

فقال : إن رأوا منكراً أنكروه وإن رأوا معروفاً أمروا به ؟

فقالوا : لا .

قال : فما يصنعون ؟

قالوا : يمدحونه ويسبونه إذا خرجوا من عنده .

فقال ابن عمر : " إن كُنّا لنعد النفاق على عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك " . المرجع السابق صـ107

 

المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي :-

قال أبو عبيد :-

سُمي المنافق منافقاً للنفق وهو السرب في الأرض .

وقيل : إنًّما سُمي منافقاً لأنه نافق كاليربوع وهو دخوله نافقاءه .

يقال : قد نفق به ونافق له حجراً آخر يقال له القاصعاء فإذا طلب قصّع فخرج من القاصعاء فهو يدخل في النافقاء ويخرج من القاصعاء أو يدخل في القاصعاء ويخرج من النافقاء فيقال له هكذا يفعل المنافق يدخل في الإسلام ثم يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه .أ.هـ . لسان العرب لابن منظور ج 10/359

 

قال الأنباري :-

" وهو مأخوذ من النفق وهو السرب , فهم يتسترون بالإسلام كما يتستر الرجل في السرب " .أ.هـ . سلسلة من مفردات القرآن صـ6

 

قال ابن دريد وهو الراغب الأصفهاني :-

" إنه مأخوذ من نافقاء اليربوع ولكن لا من جهة أن المنافق يظهر خلاف ما يُبطن ولكن من جهة أنه يدخل في الإسلام ثم يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه " . المنافقون في القرآن الكريم د.عبد العزيز الحميدي صـ13

ومن هنا نرى التلازم الواضح بين كلا المعنيين ( اللغوي والشرعي ) فاليربوع قد اتخذ المخرج الثاني وسيلة للهروب فهو أسلوب مكر وخديعة , وكذلك المنافق له وجهين يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه , فإذا طُلب من أحد الوجهين فرّ إلى الآخر – والعياذ بالله – وهذا من حيث اشتقاقه من النافقاء وهو جحر اليربوع .

أما من حيث المعنى أو الاشتقاق من النفق وهو السرب فالتلازم بين المعنيان واضح كما سبق قول الأنباري حيث أن المنافق يستر كفره حقناً لدمه وماله .

 

نشــــــأة النفــــــاق :-

لم يكن في مكة نفاق فالناس فيها على فريقين , إما مسلم موحد وإما كافر مظهر لكفره , ولعلّ ذلك يرجع إلى أنّ المسلمين لم يكن لديهم قوة عسكرية بالإضافة إلى اضطهادهم وتعذيبهم , فلم يكن أحد ليثبت إلا مؤمنٌ صادق الإيمان .

ثم كانت الهجرة إلى المدينة وهذا يقتضي من المهاجرين التخلي عن مساكنهم وأموالهم وربما أهليهم وهذا لا يقوم إلا من وقر الإيمان في قلبه .

ولهذا وغيره لم يكن للنفاق وجود في مكة ولكن عندما هاجر المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ووجد عندهم من الحفاوة والترحيب ما وجد كان أناس يلتهب الغيظ في قلوبهم , ويملأ أفئدتهم الحقد والحسد لهذا الدين الجديد , وعلى رأس هؤلاء عبد الله ابن أبي بن سلول كبير المنافقين ..

فعن أسامة بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو أصابه على حمار عليه إكاف , فوقه قطيفة فديكة مختطمة بحبل من ليف وأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه .

قال : فمر بعبد الله بن أُبي وهو ( في ) ظل مزاحم أُطمه (الأطم:الحصن,قال ابن هشام:مزاحم:اسم الأطم) .. وحوله رجال من قومه .. فما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تذمم من أن يجاوزه حتى ينزل فنزل فسلم ثم جلس قليلاً فتلا القرآن ودعا إلى الله – عز وجل – وذكّر بالله وحّذر , وبشّر وأنذر قال : وهو زامٌ لا يتكلم , حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته , قال : يا هذا إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا فاجلس في بيتك فمن جاءك له فحدّثه إياه ومن لم يأتك فلا تفته به , ولا تأته في مجلسه بما يكره منه .

قال : فقال عبد الله بن رواحه في رجال كانوا عنده من المسلمين : بلى , فاغشنا به , وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا , فهو والله مما نحب , ومما أكرمنا الله به وهدانا له , فقال عبد الله بن أُبي حين رأى من خلاف قومه ما رأى :-

متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل              تــذل ويصرعك الذين تصارع

وهل ينهض البازي بغير جناحـــه            وإن جُذ يوماً ريشه فهو واقع

قال ابن هشام:البيت الثاني عن غير ابن اسحاق

 

قال ابن اسحاق :-

" وحدثني الزهري عن عروة بن الزبير عن أسامة , قال : وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم , فدخل سعد بن عبادة , وفي وجهه ما قال عدو الله ابن أُبي , فقال : والله يا رسول الله لأرى في وجهك شيئاً , لكأنك سمعت شيئاً تكرهه , قال : أجل , ثم أخبره بما قال ابن أُبي : فقال سعد : يا رسول الله , ارفق به فوالله لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه , فوالله إنه ليرى أن قد سلبته ملكاً " . السيرة النبوبة , لابن هشام2/587-588

واستمر ابن أُبي في كفره حتى كانت موقعة بدر فقد كانوا يظنون أنها سوف تكون النهاية للقضاء على المسلمين قال تعالى مخبراً عنهم : ( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ غرّ هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيزٌ حكيم ) . سورة الأنفال،الآية49

" فلما انتصر المسلمون في هذه المعركة , كان هذا النصر بمثابة خنجر موجه إلى صدر عبد الله بن أُبي وأشياعه من المنافقين واليهود .. حتى إنهم لم يُصدقوا بشارة النصر وظلوا يرجفون .. "سلسلة من مفردات القرآن صـ25

وعندما أيقنوا بصدق الخبر قال أُبي " هذا أمر قد توجه " ثم أظهر الإسلام نفاقاً والتف حوله جماعة من المنافقين أيضاً , ومن هنا كانت نشأة النفاق حيث ما برحوا يكيدون للإسلام وأهله منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا وكم عانى الحبيب صلى الله عليه وسلم منهم !! فكم آذوه .. وكم مكروا به !! ولا تزال دسائسهم تُحاك وتدبر للقضاء على المسلمين !!

فنسأل الله المولى العزيز الجبار أن يجعل تدبيرهم تدميرهم وأن يرد كيدهم إلى نحورهم إنه سميع مجيب ...

 

بـــــواعث النفــــاق :

لا شك أن للنفاق بواعث دعت إلى التلبس ومنها :-

1-   الحقد الدفين والمقت الشديد للإسلام وأهله .

2-   الجبن والخور اللذان يتصف بهما المنافق مما يمنعه ويحجبه عن إظهار ما يكبتهم من غيض وحقد .

3-   وجود المنافق تحت سيطرة حكومة إسلامية .. المنافقون في القرآن الكريم صـ19

4-   الدخول بين صفوف المسلمين لمعرفة أسرارهم والتعرف على أفضل السبل للقضاء على الإسلام .

5-   تفكيك وحدة المسلمين .

6-   خذلان المسلمين في أوقات الشدة والحاجة إليهم لتمكين الكفرة من السيطرة عليهم .

 

أنـــواع النفـــــاق :-

ينقسم النفاق إلى نوعين هما :

أولا : نفاق أكبر : وهو الإعتقادي ويوجب الخلود في النار في دركها الأسفل .

" وهو أن يُظهر للمسلمين إيمانٌ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر , وهو في الباطن مُنسلخ من ذلك كله مُكذب به . لا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولاً للناس , يهديهم بإذنه , وينذرهم بأسه , ويخوفهم عقابه " (مدارج السالكين لابن القيم1/347) وسماه الترمذي نفاق التكذيب .

 

أمثلتــــــه :-

1-   تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم بما جاء به عن ربه .

2-   بغض الرسول صلى الله عليه وسلم .

3-   بغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعضه .

4-   السرور بهزيمة المسلمين .

5-   السرور بانخفاض الدين .

6-   اعتقاد عدم وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم .

 

الثاني : نفاق أصغر : وهو مايسميه العلماء النفاق العلمي وهو من أكبر الذنوب .

ومن أمثلته ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف , وإذا ائتُمن خان "

متفق عليه,البخاري رقم(33),ومسلم رقم(107)

وفي رواية " وإذا خاصم فجر " .

" وهو ما يصدر من المؤمن من تصرفات يظهر فيها خلاف ما يضمر مما هو دون الكفر , وذلك كالرياء الذي لا يكون في أصل العمل وإنما يعرض له في أثنائه , وكإظهار مودة الغير والقيام بخدمته مع إضمار بغضه والإساءة إليه , وكالتقرب للمسئولين والثناء عليهم وهم مُصرون على مخالفة تعاليم الإسلام .. " المنافقون في القرآن الكريم صـ18

وهذا النوع لا يوجب الخلود في النار , غير أنه من أكبر الذنوب , وقد يوجد في المؤمن خصلة من هذا النفاق ومع هذا لا يخرج عن إيمانه كما في الحديث

عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربع من كن فيه كان منافقاً , ومن كانت فيه خله منهن كانت فيه خله من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف , وإذا عاهد غدر , وإذا خاصم فجر " . متفق عليه,البخاري رقم(34),ومسلم رقم(106)

وعنه رضي الله عنه لما حضرته الوفاة خطب إليه رجلٌ ابنته فقال له : " إني قد قلت فيه قولاً شبيهاً بالعدة وإني أكره أن ألقى الله – عز وجل – بثلث النفاق " . صفة النفاق والمنافقين صـ63

" والنفاق كالكفر نفاق دون نفاق , ولهذا كثيراً ما يقال : كفر ينقل عن الملة وكفر لا ينقل ونفاق أكبر ونفاق أصغر .. "فتاوى ابن تيمية7/524

والنفاق الأكبر يشمل النفاق الأصغر لا العكس ..      

إن من أخطر ما يهدد بناء الإسلام الشامخ ويكيد له بالخفاء ذلك المرض العضال الذي ينخر في جسد الأمة الإسلامية من حيث تظن