«المجلس الرابع»

في ذكر العشر الأواخر من رمضان

في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلَ العشر شدَّ مِئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله» هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: «أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر» وفي روايةٍ، قالت: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره»

كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخصُّ العشر الأواخر من رمضان بأعمالٍ لا يعملها في بقية الشهر:

-فمنها: إحياءُ الليل، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر ـ يعني الأخير ـ شمَّر وشد المئزر».

-ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي، وفي حديث أبي ذر ٍرضي الله عنه ذكرَ أنه صلى الله عليه وسلم دعا أهله ونساءه ليلة سبع وعشرين خاصة وهذا يدل على انه يتأكد إيقاظهم في آكاد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر.

-ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشد المئزر، واختلفوا في تفسيره ... والصحيحُ أن المراد: اعتزاله النساء وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون منهم: سفيان الثوري وقد ورد ذلك صريحا من حديث عائشة وأنس رضي الله عنهما.

-ومنها: اغتسالُه بين العشاءين: ومن حديث عائشة رضي الله عنها «واغتسلَ بين الأذانين» والمراد أذان المغرب والعشاء... ولا يكمل التزيُّن الظاهر إلا بتزين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب وأوضارها فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئا قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}.

-ومنها: الاعتكاف: ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاهُ الله تعالى» ... وإنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العشر التي يطلب فيها ليلة القدر؛ قطعًا لإشغاله، وتفريغًا للياليه، وتخليًا لِمُناجاة ربه وذكره ودعائه ... فالخلوة المشروعة لهذه الأمَّة هي الاعتكاف في المساجد خصوصا في شهر رمضان خصوصا في العشر الأواخر منه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله فالمعتكفُ قد حبسَ نفسه على طاعة الله وذكره وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه فما بقي له هم سوى الله وما يرضيه عنه.

وأما العملُ ‌في ‌ليلة ‌القدر، فقد ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قامَ ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه»

وقيامُها إنما هو: إحياؤها بالتهجُّد فيها والصلاة، وقد أمر صلى الله عليه وسلم عائشة بالدعاء فيها أيضا.

وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتهجَّدُ في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتَّلةً، لا يمرُّ بآيةٍ فيها رحمة إلا سألَ، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوَّذ؛ فيَجمعُ بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها والله أعلم.