إن الرقية الشرعية وسيلة لطرد الشياطين من الأبدان التي تلبست بها، وهي من نصرة المظلوم، ومن حق المسلم على أخيه، وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله والصالحون.

قال شيخ الإسلام – رحمه الله – : «هذا من أفضل الأعمال وهو من أعمال الأنبياء والصالحين، فإنه ما زال الأنبياء والصالحون يدفعون الشياطين عن بني آدم بما أمر الله به ورسوله، كما كان المسيح يفعل ذلك، وكما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك...»([1][1]).

ومن أدلة فعله صلى الله عليه وسلم ما رواه جابر – رضي الله عنه –: إن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم معها صبي لها به لمم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (اخرج عدو الله، أنا رسول الله، قال: فبرئ، فأهدت إليه كبشين وشيئاً من أقط، وشيئاً من سمن، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ الأقط والسمن وخذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر) ([2][2]) .

وفعله الصحابة – رضي الله عنهم – فعن خارجة بن الصلت عن عمه قال: أقبلنا من عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتينا على حي من العرب، فقالوا: أنبئنا أنكم جئتم من عند هذا الرجل بخير، فهل عندكم دواء أو رقية فإن عندنا معتوها في القيود؟ قال فقلنا: نعم، قال: فجاؤوا بالمعتوه في القيود، قال: فقرأت بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية أجمع بزاقي ثم أتفل، قال: فكأنما نشط من عقال، قال: فأعطوني جعلاً، فقلت: لا حتى أسأل
النبي صلى الله عليه وسلم فسألته، فقال: (كل لعمري من أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق)
(
[3][3]) .

وكذلك فعله السلف الصالح، فقد روي عن الإمام أحمد – رحمه الله – وكانت الجن تخافه وتطيعه، وشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –([4][4]).

وعلى من قام بذلك أن يلتمس الطريقة المشروعة فيحرص أولاً على توفر أمرين هامين في كل من المعالج والمعالج وهما:

1-   قوة الإيمان، وصدق اللجوء إلى الله تعالى خالق كل شيء.

2-   الاستعاذة والاستعانة بالله تعالى بصدق وإخلاص يتواطأ فيه عمل القلب مع قول اللسان ([5][5]) .

قال ابن القيم – رحمه الله – : «وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه وربما عرياناً فيؤثر فيه»أ. هـ ([6][6]) .

وعليه أن يستعمل مع ذلك الدعاء للمصاب، كما عليه أن يأمر الجن وينهاهم عن الإضرار بهذا المصاب، وله زجرهم ولعنهم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم للعفريت الذي تسلط عليه: (أعوذ بالله منك)، وقولـه: (ألعنك بلعنة الله ثلاثاً) ([7][7]) ، ونحو ذلك من الكلام ([8][8]) .

كما يجب عليه أن يستخدم الرقية الشرعية، كما نصت على ذلك الأحاديث عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وامرأة تعالجها أو ترقيها، فقال: (عالجيها بكتاب الله) ([9][9]) .

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – :

«أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط:

1-   أن تكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته.

2-   أن تكون باللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره.

3-   أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بذات الله تعالى» ([10][10]) .

وأعظم ما يرقى به كتاب الله تعالى فهو شفاء، كما وصفه الله تعالى بقولـه:

                           (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)

وقولـه تعالى:

(.يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿٥٧

 

قال ابن القيم – رحمه الله – : «فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والاخرة

 

رة، وما كل أحد يؤهل ولا يوافق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه، لم يقاومه الداء أبداً، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها»أ. هـ ([11][11]) .

ومن الآيات التي يرقى بها: سورة الفاتحة، وأربع آيات من سورة البقرة، وآية:

                          (وإلهكم إله واحد)

_، وآية الكرسي، وثلاث آيات من أواخر سورة البقرة، وآية من آل عمران:

(شهدالله أنه لاإله إلاهو)

، وآية من سورة الأعراف:

(إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض)

 وآخر سورة المؤمنين:

((فتعلى الله الملك الحق )

  ، وآية من سورة الجن: ((وإنه تعالى جد ربنا ))

، وعشر آيات من أول الصافات، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وسورة الإخلاص، والمعوذتين.

تقرأ في أذن المريض المصاب، كما في حديث ابن مسعود أو ينفث عليه كما ورد في حديث خارجة – رضي الله عنه – السابق.

ويستعمل الضرب عند الحاجة إليه، لأنه لا يقع على المصاب وإنما على الجن المتلبس به.

ودليله حديث أم أبان بنت وازع ([12][12]) عن أبيها، أن جدها الزارع انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق معه بابن له مجنون أو ابن أخت له، قال جدي: (فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قلت: يا رسول الله إن معي ابن لي أو ابن أخت لي مجنون أتيتك به تدعو الله عز وجل لـه، فقال: ائتني به، فانطلقت به إليه وهو في الركاب، فأطلقت عنه وألقيت عنه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين، وأخذت بيده حتى انتهيت به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: ادنه مني اجْعَل ظَهْرَهُ مما يليني، قال: فأخذ بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله، فجعل يضرب ظهره حتى رأيت بياض إبطيه وهو يقول: اخرج عدو الله اخرج عدو الله، فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظره الأول، ثم أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، فدعا لـه بماء،
فمسح وجهه ودعا لـه، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم يفضل عليه)
(
[13][13]) .

وحديث عثمان بن أبي العاص – رضي الله عنه – قال: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاة حتى ما أدرى ما أصلي فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ابن أبي العاص؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: ما جاء بك؟ قلت: يا رسول الله عرض لي شيء في صلواتي حتى ما أرى ما أصلي. قال: أدنه، فدنوت منه فجلست على صدور قدمي، قال: فضرب بيده وتفل في فمي، وقال: اخرج يا عدو الله، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: الحق بعملك، قال عثمان فلعمري ما أحسبه خالطني بعد) ([14][14]) .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : «قد يحتاج في إبراء المصروع، ودفع الجن عنه إلى الضرب، فيضرب ضرباً كثيراً جداً، والضرب إنما يقع على الجني، ولا يحس به المصروع، ويخبر أنه لم يحس بشيء من ذلك، ولا يؤثر في بدنه، ويكون قد ضرب بعصا قوية على رجليه، بحيث لو كان على الإنسي لقتله، وإنما هو على الجني، والجني يصيح ويصرخ ويحدث الحاضرين بأمور متعددة، كما قد فعلنا نحن هذا وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها يحضره خلق كثيرون»أ.

هـ ([15][15]) .

هدم أماكن الشر

 


 



([1][1])   مجموع الفتاوى (19/56-57).

([2][2])   سبق تخريجه.

([3][3])   رواه الإمام أحمد (5/211)، وأبو داود في كتاب: «الطب»، باب: (كيف الرقى)، رقم: 3901، (4/13)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب: «الطب»، باب: (ذكر ما يرقى به المعتوه)، رقم: 7534، (4/365)، والحاكم في المستدرك (1/559-560)، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، صحيح الجامع الصغير، رقم: 4370.

([4][4])   انظر: ما نقله ابن القيم – رحمه الله – عن شيخه ابن تيمية – رحمه الله – في هذا الشأن في الطب النبوي، ص68-69.

([5][5])   انظر: زاد المعاد، لابن القيم (4/67-68).

([6][6])   المرجع السابق (4/69).

([7][7])   سبق تخريجه.

([8][8])   انظر: مجموع الفتاوى (19/50-53).

* كثر في الآونة الآخيرة من يقوم بعلاج الناس بالرقية، والبعض منهم يقع في اجتهادات غير شرعية، ولا دليل عليها ومنها: القراءة على ماء به زعفران ثم غمس الأوراق الصغيرة فيه وتجفيفها، ثم بيعها على الناس حيث يأمر المريض أن يغمسها في الماء ثم يشرب ماءها!!

وقد أفتت هيئة كبار العلماء في الفتوى رقم 139 تاريخ 8/1/1418هـ، بعدم جواز ذلك، وأنه من الاحتيال على أكل الناس بالباطل، وليس من الرقية التي نص بعض أهل العلم على جوازها؛ وهي كتابة الآيات في ورقة، أو في شيء طاهر كتابة واضحة، ثم غسل تلك الكتابة وشرب غسيلها أ. هـ.

ومنها: قراءة القرآن أثناء الرقية بمكبر صوت أو عبر الهاتف مع بعد المسافة، والقراءة على جمع كبير في آن واحد، حيث أفتت اللجنة في الفتوى السابقة إلى أن الرقية لا بد أن تكون على المريض مباشرة ولا تكون بواسطة مكبر الصوت أو الهاتف، لأن هذا يخالف ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه – رضي الله عنهم – وأتباعهم ، كذلك القراءة على المريض بواسطة جهاز التسجيل لا تغني عن الرقية، لأن الرقية تحتاج إلى اعتقاد ونية حال أدائها، ومباشرة للنفث على المريض والجهاز لا يتأتي منه ذلك، انظر: الفتوى الصادرة من هيئة كبار العلماء والمطبوعة في نشرة من دار الوطن، وللاستزادة انظر فتاوى العلماء في علاج السحر والمس والعين والجان، إعداد وترتيب: نبيل محمد محمود، ط. الثانية، 1421هـ، دار القاسم.

([9][9])   رواه ابن حبان في موارد الظمآن، رقم: 1419.

([10][10])   فتح الباري (10/195).

([11][11])   زاد المعاد، لابن القيم (4/352.

([12][12])   ام أبان بنت الوازع بن الزارع، روت عن أبيها وجدها، وأبوها هو الوازع بن زارع العبدي صحابي، وجدها زارع بن عامر العبدي أبو الوازع وفد مع الأشح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقبل يدي النبي صلى الله عليه وسلم ورجليه قال عنها ابن حجر: مقبولة عند المتابعة، انظر: ميزان الاعتدال (4/611)، الإصابة (3/627)، 1/541)، تقريب التهذيب، رقم: 8700، ص 755.

([13][13])   رواه الطبراني في الكبير، رقم: 5314، (5/275-276)، ويشهد لمشروعية الضرب حديث عثمان بن أبي العاص التالي.

([14][14])   سبق تخريجه.

([15][15])   مجموع الفتاوى (19/60).