في معنى تسمية من جاءت به الأنبياء معجزة

 

و اعلم أن المعجزات التي ظهرت على يد نبينا صلى الله عليه و سلم دلا ئل نبوته و براهين صدقه ـ من هذين النوعين معاً ـ و هو أكثر الرسل معجرةً ، و أبهرهم آيةً، و أظهرهم برهاناً ، كما سنبينه ، و هي ـ في كثرتها ـ لا يحيط بها ضبط ، فإن واحداً منها ـ و هو القرآن ـ لا يحصى عدد معجزاته بألف و لا ألفين ، و لا أكثر ، لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد تحدى بسورة منه فعجز عنها .
قال أهل العلم : إنا أعطيناك الكوثر . فكل آية أو آيات منه بعددها و قدرها معجزة ، ثم فيها نفسها معجزات على ما سنفصله فيما انطوى عليه من المعجزات .
ثم معجزاته صلى الله عليه و سلم على قسمين : قسم منها علم قطعاً ، و نقل إلينا متواتراً كالقرآن ، فلا مرية ، و لا خلاف ، بمجيء النبي به ، و ظهوره من قبله ، و استدلاله بحجته ، و إن أنكر هذا معاند جاحد ، فهو كإنكاره وجود محمد صلى الله عليه و سلم في الدنيا .
و إنما جاء اعتراض الجاحدين في الحجة به ، فهو في نفسه و جميع ما تضمنه من معجز معلوم ضرورة .
و وجه إعجازه معلوم ضرورةً و نظراً ، كما سنشرحه .
قال بعض أئمتنا : و يجري هذا المجرى على الجملة أنه قد جرى على يديه صلى الله عليه و سلم آيات و خوارق عادات إن لم يبلغ واحد منها معيناً القطع فيبلغه جميعها ، فلا مرية في جريان معانيها على يديه ، و لا يختلف مؤمن و لا كافر ـ أنه جرت على يديه عجائب ، و إنما خلاف المعاند في كونها من قبل الله .
و قد قدمنا كونها من قبل الله ، و أن ذلك بمثابة قوله : صدقت .
فقد علم وقوع مثل هذا أيضاً من نبينا ضرورةً لاتفاق معانيها ، كما يعلم ضرورة جود حاتم ، و شجاعة عنترة ، و حلم أحنف ، لاتفاق الأخبار الواردة عن كل واحد منهم على كرم هذا، و شجاعة هذا ، و حلم هذا ، و إن كان كل خبر بنفسه لا يوجب العلم ، و لا يقطع بصحته .
و القسم الثاني ما لم يبلغ مبلغ الضرورة و القطع ، و هو على نوعين : نوع مشتهر منتشر ، رواه العدد ، و شاع الخبر به عند المحدثين و الرواة و نقلة السير و الأخبار ، كنبع الماء من بين الأصابع ، و تكثير الطعام .
و نوع منه اختص به الواحد و الإثنان ، و رواه العدد اليسير ، و لم يشتهر اشتهار غيره ، لكنه إذا جمع إلى مثله اتفقا في المعنى ، و اجتمعا على الإتيان بالمعجز ، كما قدمناه .

معجزات نبينا أظهر من سائر معجزات الرسل من وجهين

و معجزات نبينا صلى الله عليه و سلم أظهر من سائر معجزات الرسل بوجهين :
أحدهما : كثرتها ، و أنه لم يؤت نبي معجزةً إلا و عند نبينا مثلها ، أو ما هو أبلغ منها .
و قد نبه الناس على ذلك ، فإن أردته فتأمل فصول هذا الباب ، و معجزات من تقدم من الأنبياء ـ تقف على ذلك إن شاء الله تعالى .
و أما كونها كثيرة فهذا القرآن ، و كله معجز ، و أقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض أئمة المحققين سورة : إنا أعطيناك الكوثر ، أو آية في قدرها .
و ذهب بعضهم إلى أن كل آية منه كيف كانت معجزة .
و زاد آخرون أن كل جملة منتظمة منه مع جزة ، و إن كانت من كلمة أو كلمتين .
و الحق ما ذكرناه أولاً ، لقوله تعالى : قل فاتوا بسورة مثله ، فهو أقل ما تحداهم به ، مع ما ينصر هذا من نظر و تحقيق يطول بسطه .
و إذا كان هذا ففي القرآن من الكلمات نحو من سبعة و سبعين ألف كلمة و نيف على عدد بعضهم ، و عدد كلمات : إنا أعطيناك الكوثر عشر كلمات ، فتجزؤ القرآن على نسبة عدد إنا أعطيناك الكوثر أزيد من سبعة آلاف جزء ، كل واحد منها معجز في نفسه .
ثم إعجازه ـ كما تقدم ـ بوجهين : طريق بلاغته ، و طريق نظمه ، فصار في كل جزء من هذا العدد معجزتان ، فتضاعف العدد من هذا الوجه .
ثم فيه وجوه إعجاز أخر من الإخبار بعلوم الغيب ، فقد يكون في السورة الواحدة من هذه التجزئة الخبر عن أشياء من الغيب ، كل خبر منها بنفسه معجز ، فتضاعف العدد كرة أخرى .
ثم وجوه الإعجاز الأخر التي ذكرناها توجب التضعيف ، هذا في حق القرآن ، فلا يكاد يأخذ العد معجزاته ، و لا يحوي الحصر براهينه .
ثم الأحاديث الواردة ، و الأخبار الصادرة عنه صلى الله عليه و سلم في هذه الأبواب و عما دل على أمره مما أشرنا إلى جمله يبلغ نحواً من هذا .
الوجه الثاني : و ضوح معجزاته صلى الله عليه و سلم ، فإن معجزات الرسل كانت بقدر همم أهل زمانهم ، و بحسب الفن الذي سما فيه قرنه .
فلما كان موسى غاية أهل السحر بعث إليهم موسى بمعجزة تشبيه ما يدعون قدرتهم عليه ، فجاءهم منها ما خرق عادتهم ، و لم يكن في قدرتهم [134 ] ، و أبطل سحرهم .
و كذلك زمن عيسى أغنى ما كان الطب ، و أوفر ما كان أهله ، فجاءهم أمر لا يقدرون عليه ، و أتاهم ما لم يحتسبوه من إحياء الميت ، و إبراء الأكمه و الأبرص دون معالجة و لا طب .
و هكذا سائر معجزات الأنبياء .
ثم إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه و سلم ، و جملة معارف العرب و علومها أربعة : البلاغة ، و الشعر ، و الخبر ، و الكهانة ، فأنزل عليه القرآن الخارق لهذه الأربعة فصول من الفصاحة ، و الإيجاز ، و البلاغة الخارجة عن نمط كلامهم ، و من النظم الغريب ، و الأسلوب العجيب الذي لم يهتدوا في المنظوم إلى طريقه ، و لا علموا في أساليب الأوزان منهجه ، و من الأخبار عن الكوائن و الحوادث و الأسرار و المخبآت و الضمائر ، فتوجد على ما كانت ، و يعترف المخبر عنها بصحة ذلك و صدقه ، و إن كان أ'دى العدو .
فأبطل الكهانة التي تصدق مرةً و تكذيب عشراً ، ثم اجتثها من أصلها برحم الشهب ، و رصد النجوم .
و جاء من الأخبار عن القرون السالفة ، و أنباء الأنبياء ، و الأمم البائدة ، و الحوادث الماضية ـ ما يعجز من تفرغ لهذا العلم عن بعضه على الوجوه التي بسطناها و بينا المعجز فيها .
ثم بقيت هذه المعجزة الجامعة لهذا الوجوه إلى الفصول الأخر التي ذكرناها في معجزات القرآن ثابتةً إلى يوم القيامة بينة الحجة لكل أمة تأتي ، لا يخفى وجوه ذلك على من نظر فيه ، و تأمل وجوه إعجازه .
إلى ما أخبر به من الغيوب على هذه السبيل ، فلا يمر عصر و لا زمن إلا يظهر فيه صدقه بظهور مخبره على ما أخبر ، فيتجدد الإيمان ، و يتظاهر البرهان ، و ليس الخبر كالعيان كما قيل .
و للمشاهدة زيادة في اليقين ، و النفس أشد طمأنينة إلى عين اليقين منها إلى علم اليقين ، و إن كان كل عندها حقاً .
و سائر معجزات الرسل انقرضت بانقراضهم ، و عدمت بعدم ذواتها ، و معجزة نبينا صلى الله عليه و سلم لا تبيد و لا تنقطع ، و آياته تتجدد و لا تضمحل.

 

 

*للاستزادة (كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى)

للقاضي عياض أبي الفضل بن موسى اليحصبي.