بسم الله الرحمن الرحيم

فوائد منتقاه من الجزء الأول من مجموع فتاوى ابن تيمية رحمه الله.

جمع الفقيرة إلى عفو ربها القدير/ قذلة بنت محمد القحطاني

في 5 /11 /1434

__________________
حفظ الله للقران

قال شيخ الإسلام: ولما كان القرآن متميزا بنفسه لما خصه الله به من الإعجاز الذي باين به كلام الناس كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88] وكان منقولا بالتواتر لم يطمع أحد في تغيير شيء من ألفاظه وحروفه؛ ولكن طمع الشيطان أن يدخل التحريف والتبديل من معانيه بالتغيير والتأويل، وطمع أن يدخل في الأحاديث من النقص والازدياد ما يضل به بعض العباد.
فأقام الله تعالى الجهابذة النقاد، أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بين الحق من البهتان، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان

(1 /7)

 

 

............................................................................................................

مكانة السنةالنبوية

 

والله سبحانه بعث محمدًا بالكتاب والسنة، وبهما أتم على أمته المنة، قال تعالى: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [13]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [14]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ} [15]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [16].

وقال تعالى عن الخليل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [17]، وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله وَالْحِكْمَةِ} [18]، وقد قال غير واحد من العلماء، منهم يحيى ابن أبي كثير وقتادة والشافعي وغيرهم: {الًحٌكًمّة}: هى السنة، لأن الله أمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من الكتاب والحكمة، والكتاب: القرآن، وما سوى ذلك مما كان الرسول يتلوه هو السنة.

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه من حديث أبي رافع وأبي ثعلبة وغيرهما أنه قال: (لا أُلْفِيَنَّ أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيتُ عنه فيقول: بيننا وبينكم القرآن، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه). وفي رواية: (ألا وإنه مثل الكتاب ).

ولما كان القرآن متميزًا بنفسه لما خصه الله به من الإعجاز الذي باين به كلام الناس كما قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [19] وكان منقولا بالتواتر لم يطمع أحد في تغيير شيء من ألفاظه وحروفه، ولكن طمع الشيطان أن يدخل التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل، وطمع أن يدخل في الأحاديث من النقص والازدياد ما يضل به بعض العباد.

فأقام الله تعالى الجهابذة النقاد، أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بَيِّن الحق من البهتان، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان.

وقام كل من علماء الدين بما أنعم به عليه وعلى المسلمين مقام أهل الفقه الذين فقهوا معاني القرآن والحديث بدفع ما وقع في ذلك من الخطأ في القديم والحديث، وكان من ذلك الظاهر الجلي، الذي لا يسوغ عنه العدول، ومنه الخفي، الذي يسوغ فيه الاجتهاد للعلماء العدول.)  (1/ 6)-

....................................................................................................................................

قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله
"فمن كان مخلصاً في أعمال الدين يعملُها لله؛ كان من أولياء الله المتقين أهل النعيم المقيم"
مجموع الفتاوى [1/8].

.................................................................................................

 

قال صلى الله عليه وسلم : «ثلاث خصال لا يَغِلُّ عليهن قلب مسلم أبداً: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» رواه أحمد وابن ماجة من حديث زيد بن ثابت ] وصححه ابن حبان·
-
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «فقد جمع في هذه الأحاديث بين الخصال الثلاث، إخلاص العمل لله ومناصحة أولي الأمر ولزوم جماعة المسلمين،وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده وتجمع الحقوق التي لله ولعباده وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة؛ وبيان ذلك أن الحقوق قسمان: حق لله، وحق لعباده، فحق الله أن نعبده ولا نشرك به شيئاً كما جاء لفظه في أحد الحديثين؛ وهذا معنى إخلاص العمل لله كما جاء في الحديث الآخر، وحقوق العباد قسمان خاص وعام، أما الخاص فمثل بر كل إنسان والديه وحق زوجته وجاره فهذه من فروع الدين؛ لأن المكلف قد يخلو عن وجوبها عليه ولأن مصلحتها خاصة فردية، وأما الحقوق العامة فالناس نوعان: رعاة ورعية، فحقوق الرعاة مناصحتهم وحقوق الرعية لزوم جماعتهم فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم وهم لا يجتمعون على ضلالة، بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامهم بحبل الله جميعاً، فهذه الخصال تجمع أصول الدين، وقد جاءت مفسرة في الحديث الذي رواه مسلم عن تميم الداري قال: قال رسول الله ): الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم(؛ فالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله تدخل في حق الله وعبادته وحده لا شريك له، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم هي مناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعتهم فإن لزوم جماعتهم هي نصيحتهم العامة، وأما النصيحة الخاصة لكل واحد منهم بعينه فهذه يمكن بعضها ويتعذر استيعابها على سبيل التعيين

 

1/18 -19)

..............................................................................................

ضرورة الخلق إلى العبودية لله تعالى:

بيّن ابن تيمية رحمه الله ضرورة الخلق إلى العبودية من وجوه كثيرة فقال: "ونبين هذا بوجوه نقدم قبلها مقدمة.

وذلك أن العبد بل كل حي بل وكل مخلوق سوى الله هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرة هي من جنس الألم والعذاب، فلا بد له من أمرين:

أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينفع ويلتذ به.

والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع الذي يوقع المكروه. وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية فهنا أربعة أشياء:

أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.

والثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.

والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.

والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.

فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي، لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها.

إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه:

أحدها: أن الله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب، وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه، فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب، فالأول من معنى الألوهية، والثاني من معنى الربوبية، إذ الإله: هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالاً وإكراماً، والرب: هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها، وكذلك قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، وقوله: {فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30]، وقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل:8، 9]، فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين.

الوجه الثاني: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به.

وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذلة، بدون ذلك بحال. بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى...

فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه، إلا الله سبحانه، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل الطعام المسموم...

واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة.

فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولا بد من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.

ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك.

وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه، ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: {لا أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ} [الأنعام:76].

الوجه الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذي خلقه ورزقه، وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله، وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول، ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول، لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول فهذا الوجه يقتضي التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاءه، ومسألته، دون ما سواه، ويقتضي أيضاً محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه في هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه دخلوا في الوجه الأول، ونظيره في الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولاً، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه.

الوجه الرابع: أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه، إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإن أحب شيئاً حباً تاماً بحيث يخالِلُه فلا بد أن يسأمه، أو يفارقه، وفي الأثر المأثور: أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.

واعلم أن كل من أحب شيئاً لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سبباً لعذابه، ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، يمثل لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع يأخذ بلهزمته، يقول: أنا كنزك، أنا مالك.

فكل من أحب شيئاً دون الله ولاَّه الله يوم القيامة ما تولاه، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً، فمن أحب شيئاً لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد، أو فقد، فإن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء، وكل من أحب شيئاً دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته، فصارت المخلوقات وبالا عليه إلا ما كان لله وفي الله، فإنه كمال وجمال للعبد، وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((االدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه)) رواه الترمذي وغيره.

الوجه الخامس: أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته، فإنه يخذل من تلك الجهة، وهو أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء، ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل، وقد قال الله تعالى: {وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَـٰدَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:81، 82].

الوجه السادس: أن الله سبحانه غني، حميد، كريم، واجد، رحيم، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحساناً، والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه، ويجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما، وإن كان ذلك أيضاً من تيسير الله تعالى فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر، فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك. وكذلك من أحب إنساناً لشجاعته أو رياسته، أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحبه، وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو ـ ولو بالدعاء أو الثناء ـ فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وعبيد المالك، وأجراء الصانع، وأعوان الرئيس، كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم، إلا أن يكون قد علم وأدب من جهة أخرى، فيدخل ذلك في الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع عدل، وإحسان من باب المكافأة والرحمة... وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه، وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه، وقسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً.

إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل، فإذا دعوته، فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه.

والرب سبحانه يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة، فتدبر هذا فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه، ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تخفهم فلا ترجهم، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله، وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وكن ممن قال الله فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى * ٱلَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلاَّ ٱبْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ ٱلأَعْلَىٰ} [الليل:17-20]، وقال فيه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً} [الإنسان:9].

الوجه السابع: أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك وإن كان ذلك ضرراً عليك، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها.

الوجه الثامن: أنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض، فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ولا يقصدون دفعها إلا لغرض لهم في ذلك.

الوجه التاسع: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تعلق بهم رجاءك.

قال الله تعالى: {أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنِ ٱلْكَـٰفِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ * أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ} [الملك:20، 21]، والنصر يتضمن دفع الضرر والرزق يتضمّن حصول المنفعة"[1].

وقال أيضاً: "فالفقر وصف لازم لها دائماً لا تزال مفتقرة إليه، والإمكان والحدوث دليلان على الافتقار، لا أن هذين الوصفين جعلا الشيء مفتقراً، بل فقر الأشياء إلى خالقها لازم لها لا يحتاج إلى علة، كما أن غنى الرب لازم لذاته لا يفتقر في اتصافه بالغنى إلى علة، وكذلك المخلوق لا يفتقر في اتصافه بالفقر إلى علة، بل هو فقير لذاته، لا تكون ذاته إلا فقيرة فقراً لازماً لها، ولا يستغني إلا بالله.

وهذا من معاني (الصمد)، وهو الذي يفتقر إليه كل شيء، ويستغني عن كل شيء، بل الأشياء مفتقرة من جهة ربوبيته، ومن جهة إلهيته، فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا يصلح ولا ينفع ولا يدوم. وهذا تحقيق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فلو لم يخلق شيئاً بمشيئته وقدرته لم يوجد شيء، وكل الأعمال إن لم تكن لأجله ـ فيكون هو المعبود المقصود المحبوب لذاته ـ وإلا كانت أعمالاً فاسدة"[2].

بل لا كمال للعبد إلا في عبوديته لربه جل وعلا، قال ابن تيمية: "كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهّم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه، أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق بل أضلّهم"[3].

وقال: "القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائبة، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة.

فالقلب لا يصلح ولا يُفلح ولا يلتذّ ولا يُسَرُّ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.

وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فإنه لو أُعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادةٌ لله، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها، إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون هو غاية مراده، ونهاية مقصوده، وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله، لا يحب شيئاً لذاته إلا الله"[4].

ولبيان هذه الحقيقة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أصدق الأسماء حارث وهمام))، قال شيخ الإسلام: "فالحارث: الكاسب الفاعل، والهمّام: فعّالٌ من الهم، والهم أوّل الإرادة، فالإنسان له إرادة دائماً، وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه، فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مرادٌ محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبدا لذلك المراد المحبوب، إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلها من دون الله، كالشمس، والقمر، والكواكب، والأوثان، وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً، أو غير ذلك مما عُبد من دون الله"[5].

[1] مجموع الفتاوى (1/21-31).

 

......................................................................................

الربوبية العامة لجميع المخلوقات

 

وقال‏:‏ {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 83‏]‏، ‏{وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}‏ الآية ‏[‏الرعد‏: ‏15‏]‏، وقال‏:‏ ‏{بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}‏[‏البقرة‏:‏ 116‏]‏، فليس المراد بذلك مجرد كونهم مخلوقين مدبرين مقهورين تحت المشيئة والقدرة، فإن هذا لا يقال طوعا وكرها، فإن الطوع والكره إنما يكون لما يفعله الفاعل طوعا وكرها، فأما ما لا فعل له فيه فلا يقال له‏:‏ ساجد أو قانت، بل ولا مسلم، بل الجميع مقرون بالصانع بفطرتهم، وهم خاضعون مستسلمون، قانتون مضطرون من وجوه‏:
‏ . منهـا‏:‏ علمهم بحاجتهم وضرورتهم إليه‏.
. ‏ومنها: ‏دعاؤهم إياه عند الاضطرار‏.‏
. ومنها‏:‏ خضوعهم واستسلامهم لما يجرى عليهم من أقداره ومشيئته‏.‏
. ومنها‏:‏ انقيادهم لكثير مما أمر به فى كل شىء، فإن سائر البشر لا يُمَكِّنُونَ العبد من مراده، بل يقهرونه ويلزمونه بالعدل الذى يكرهه، وهو مما أمر الله به، وعصيانهم له فى بعض ما أمر به ـ وإن كان هو التوحيد ـ لا يمنع كونهم قانتين خاضعين، مستسلمين كرهاً، كالعصاة من أهل القبلة وأهل الذِّمة وغيرهم، فإنهم خاضعون للدين الذى بعث به رسله، وإن كانوا يعصونه فى أمور‏.‏
والمؤمن يخضع لأمر ربه طوعا، وكذلك لما يقدره من المصائب، فإنه يفعل عندها ما أمر به من الصبر وغيره طوعا، فهو مسلم لله طوعا، خاضع له طوعا، والسجود مقصود الخضوع، وسجود كل شىء بحَسَبِه سجودا يناسبها ويتضمن الخضوع للرب‏.‏
وأما فقر المخلوقات إلى الله ـ بمعنى حاجتها كلها إليه، وأنه لا وجود لها ولا شىء من صفاتها، وأفعالها إلا به ـ فهذا أول درجات الافتقار، وهو افتقارها إلى ربوبيته لها، وخلقه وإتقانه، وبهذا الاعتبار كانت مملوكة له، وله ـ سبحانه ـ الملك والحمد‏.‏
وهذا معلوم عند كل من آمن بالله ورسله الإيمان الواجب، فالحدوث دليل افتقار الأشياء إلى محدثها، وكذلك حاجاتها إلى محدثها بعد إحداثه لها دليل افتقارها، فإن الحاجة إلى الرزق دليل افتقار المرزوق إلى الخالق الرازق‏.‏
والصواب‏:‏ أن الأشياء مفتقرة إلى الخالق لذواتها لا لأمر آخر جعلها مفتقرة إليه، بل فقرها لازم لها، لا يمكن أن تكون غير مفتقرة إليه، كما أن غَنَاء الرب وصفُ لازم له لا يمكن أن يكون غير غنى، فهو غنى بنفسه لا بوصف جعله غنيًا، وفقر الأشياء إلى الخالق وصف لها، وهى معدومة وهى موجودة، فإذا كانت معدومة فقيل عن مطر ينتظر نزوله وهو مفتقر إلى الخالق كان معناه‏:‏ أنه لا يوجد إلا بالخالق‏.‏ هذا قول الجمهور من نظار المسلمين وغيرهم، وهذا الافتقار أمر معلوم بالعقل، وما أثبته القرآن من استسلام المخلوقات وسجودها وتسبيحها وقنوتها، أمر زائد على هذا عند عامة المسلمين من السلف وجمهور الخلف‏.‏

1/44_

 

قال شيخ الإسلام رحمه الله :
والسعادة في معاملة الخلق: أن تعاملهم لله فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم وتكف عن ظلمهم خوفا من الله لا منهم. كما جاء في الأثر: " ارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله " أي: لا تفعل شيئا من أنواع العبادات والقرب لأجلهم لا رجاء مدحهم ولا خوفا من ذمهم بل ارج الله ولا تخفهم في الله فيما تأتي وما تذر بل افعل ما أمرت به وإن كرهوه. وفي الحديث:(إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله أو تذمهم على ما لم يؤتك الله)
مج 1/51

 

......................................................................................

فائدة عظيمة

 

  "كل من اتبع النبى وقاتل على دينه فقد قاتل معه، وكذلك كل من قتل على دينه فقد قتل معه، وهذا الذى فهم الصحابة، فإن أعظم قتالهم كان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، حتى فتحوا البلاد شامًا، ومصرًا، وعراقًا، ويمنًا وعربًا، وعجمًا، ورومًا، ومغربًا، ومشرقًا، وحينئذ فظهر كثرة من قتل معه، فإن الذين قاتلوا وأصيبوا وهم على دين الأنبياء كثيرون، ويكون فى هذه الآية عبرة لكل المؤمنين إلى يوم القيامة، فإنهم كلهم يقاتلون مع النبى صلى الله عليه وسلم على دينه، وإن كان قد مات، والصحابة الذين يغزون فى السرايا، والنبى ليس معهم، كانوا معه يقاتلون، وهم داخلون فى قوله‏:‏ ‏{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ}‏ الآية ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏، وفى قوله‏: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏: 75‏]‏‏.‏ ليس من شرط من يكون مع المطاع أن يكون مشاهدًا للمطاع ناظرًا إليه‏."

..........................................................

مسألة : الجزء الأول

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ} . وَكِتَابُ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} وَقَوْلِهِ: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} . وَقَالَ فِي النَّصَارَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . وَقَالَ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ

أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . وَلَمَّا أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنْ نَسْأَلَهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ الْمُغَايِرِينَ لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلِلضَّالِّينَ كَانَ ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَبْدَ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرِفَ إلَى هَذَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: {لَتَسْلُكُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ} ؟ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَكَانَ السَّلَفُ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ انْحَرَفَ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ: فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ وَمَنْ انْحَرَفَ مِنْ الْعُبَّادِ: فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى كَمَا يُرَى فِي أَحْوَالِ مُنْحَرِفَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ وَالْبُخْلِ بِالْعِلْمِ وَالْكِبْرِ وَأَمْرِ النَّاسِ بِالْبَرِّ وَنِسْيَانِ أَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

 

وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحقّق عبوديّته لئلّا تقع الأمّة فيما وقعت فيه النّصارى في المسيح من دعوى الألوهيّة حتّى قال له رجلٌ: ما شاء اللّه وشئت.
فقال: (أجعلتني للّه ندًّا؟ بل ما شاء اللّه وحده) .
وقال أيضًا لأصحابه: (لا تقولوا ما شاء اللّه وشاء محمّدٌ بل قولوا ما شاء اللّه ثمّ شاء محمّدٌ)
وقال: (لا تتّخذوا قبري عيدًا وصلّوا عليّ حيثما كنتم فإنّ صلاتكم تبلغني).
وقال: (اللّهمّ لا تجعل قبري وثنًا يعبد اشتدّ غضب اللّه على قومٍ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد)
وقال: (إنّ من كان قبلكم كانوا يتّخذون القبور مساجد ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد فإنّي أنهاكم عن ذلك).
والغلوّ في الأمّة وقع في طائفتين: طائفةٍ من ضلّال الشّيعة الّذين يعتقدون في الأنبياء والأئمّة من أهل البيت الألوهيّة وطائفةٍ من جهّال المتصوّفة يعتقدون نحو ذلك في الأنبياء والصّالحين فمن توهّم في نبيّنا أو غيره من الأنبياء شيئًا من الألوهيّة والرّبوبيّة فهو من جنس النّصارى وإنّما حقوق الأنبياء ما جاء به الكتاب والسّنّة عنهم.
قال تعالى في خطابه لبني إسرائيل: {وآمنتم برسلي وعزّرتموهم وأقرضتم اللّه قرضًا حسنًا لأكفّرنّ عنكم سيّئاتكم ولأدخلنّكم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار}
والتّعزير: النّصر والتّوقير والتّأييد.

1 /66

............................................................................................................

 

وذكر طاعة الرسول في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن. وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [21]، وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [22]، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌِ} [23]، وقال تعالى: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [24]، فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده كما قال: {فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [25]، وقال: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [26]، وقال: {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [27]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [28]، وقال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا} [29]، وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [30].

وقال : (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). وقال له عمر: والله يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل أحد إلا من نفسي، فقال: (لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك) فقال: فأنت أحب إلى من نفسي قال: (الآن يا عمر).(1 /67_68

فأمّا العبادة والاستعانة فللّه وحده لا شريك له كما قال: {واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئًا} {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}. {وما أمروا إلّا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدّين حنفاء} وقد جمع بينهما في مواضع كقوله: {فاعبده وتوكّل عليه}. وقوله: {وتوكّل على الحيّ الّذي لا يموت وسبّح بحمده}. وقوله: {عليه توكّلت وإليه أنيب}.
وكذلك التّوكّل كما قال: {وعلى اللّه فليتوكّل المتوكّلون}
وقال: {قل أفرأيتم ما تدعون من دون اللّه إن أرادني اللّه بضرٍّ هل هنّ كاشفات ضرّه أو أرادني برحمةٍ هل هنّ ممسكات رحمته قل حسبي اللّه عليه يتوكّل المتوكّلون}
وقال: {الّذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل}.
والدّعاء للّه وحده سواءٌ كان دعاء العبادة أو دعاء المسألة والاستعانة كما قال تعالى: {وأنّ المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحدًا} {وأنّه لمّا قام عبد اللّه يدعوه كادوا يكونون عليه لبدًا} {قل إنّما أدعو ربّي ولا أشرك به أحدًا}
وقال تعالى: {فادعوا اللّه مخلصين له الدّين ولو كره الكافرون} وقال: {فلا تدع مع اللّه إلهًا آخر فتكون من المعذّبين}.
وقال: {ولا تطرد الّذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه}.

 

............................................................................................................

 

وتوحيد اللّه وإخلاص الدّين له في عبادته واستعانته في القرآن: كثيرٌ جدًّا بل هو قلب الإيمان وأوّل الإسلام وآخره.
كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم {أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّدًا رسول اللّه}
وقال: {إنّي لأعلم كلمةً لا يقولها عند الموت أحدٌ إلّا وجد روحه لها روحًا} وقال: {من كان آخر كلامه لا إله إلّا اللّه: وجبت له الجنّة} وهو قلب الدّين والإيمان، وسائر الأعمال كالجوارح له.
وقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم {إنّما الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله: فهجرته إلى اللّه ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوّجها: فهجرته إلى ما هاجر إليه} فبيّن بهذا أنّ النّيّة عمل القلب وهي أصل العمل.
وإخلاص الدّين للّه وعبادة اللّه وحده ومتابعة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم فيما جاء به هو شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّدًا عبده ورسوله. ولهذا أنكرنا على الشّيخ يحيى الصرصري: ما يقوله في قصائده في مدح الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم من الاستغاثة به مثل قوله: بك أستغيث وأستعين وأستنجد. ونحو ذلك.
وكذلك ما يفعله كثيرٌ من النّاس من استنجاد الصّالحين والمتشبهين بهم والاستعانة بهم أحياءً وأمواتًا فإنّي أنكرت ذلك في مجالس عامّةٍ وخاصّةٍ وبيّنت للنّاس التّوحيد ونفع اللّه بذلك ما شاء اللّه من الخاصّة والعامّة. وهو دين الإسلام العامّ الّذي بعث اللّه به جميع الرّسل. كما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كلّ أمّةٍ رسولًا أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطّاغوت} وقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلّا نوحي إليه أنّه لا إله إلّا أنا فاعبدون} وقال: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرّحمن آلهةً يعبدون} وقال: {يا أيّها الرّسل كلوا من الطّيّبات واعملوا صالحًا إنّي بما تعملون عليمٌ} {وإنّ هذه أمّتكم أمّةً واحدةً وأنا ربّكم فاتّقون}
وقال: {شرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحًا والّذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه}
وقال: {وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون}.
وقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لمعاذ بن جبلٍ: يا معاذ أتدري ما حقّ اللّه على عباده؟ قلت اللّه ورسوله أعلم. قال: حقّه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.
أتدري ما حقّ العباد على اللّه إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذّبهم}.

............................................................................................................

الإخلاص لله في العبودية

 

فالعبادة والاستعانة وما يدخل في ذلك من الدّعاء والاستغاثة والخشية والرّجاء والإنابة والتّوكّل والتّوبة والاستغفار كلّ هذا للّه وحده لا شريك له فالعبادة متعلّقةٌ بألوهيّته والاستعانة متعلّقةٌ بربوبيّته واللّه ربّ العالمين لا إله إلّا هو ولا ربّ لنا غيره لا ملك ولا نبيّ ولا غيره، بل أكبر الكبائر الإشراك باللّه وأن تجعل له ندًّا وهو خلقك والشّرك أن تجعل لغيره شركًا أي نصيبًا في عبادتك وتوكّلك واستعانتك كما قال من قال: {ما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى اللّه زلفى} وكما قال تعالى: {وما نرى معكم شفعاءكم الّذين زعمتم أنّهم فيكم شركاء} وكما قال: {أم اتّخذوا من دون اللّه شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئًا ولا يعقلون} وكما قال: {ما لكم من دونه من وليٍّ ولا شفيعٍ}.
وأصناف العبادات: الصّلاة بأجزائها مجتمعةً وكذلك أجزاؤها الّتي هي عبادةٌ بنفسها من السّجود والرّكوع والتّسبيح والدّعاء والقراءة والقيام لا يصلح إلّا للّه وحده.
ولا يجوز أن يتنفّل على طريق العبادة إلّا للّه وحده لا لشمس ولا لقمر ولا لملك ولا لنبيّ ولا صالحٍ ولا لقبر نبيٍّ ولا صالحٍ هذا في جميع ملل الأنبياء، وقد ذكر ذلك في شريعتنا حتّى نهي أن يتنفّل على وجه التّحيّة والإكرام للمخلوقات، ولهذا نهى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم معاذًا أن يسجد له.
وقال: {لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرت الزّوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقّه عليها}.
ونهى عن الانحناء في التّحيّة ونهاهم أن يقوموا خلفه في الصّلاة وهو قاعدٌ.
وكذلك الزّكاة العامّة من الصّدقات كلّها والخاصّة لا يتصدّق إلّا للّه كما قال تعالى: {وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تجزى} {إلّا ابتغاء وجه ربّه الأعلى} وقال: {إنّما نطعمكم لوجه اللّه} وقال: {ومثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه وتثبيتًا من أنفسهم} وقال: {وما آتيتم من زكاةٍ تريدون وجه اللّه فأولئك هم المضعفون} فلا يجوز فعل ذلك على طريق الدّين لا لملك ولا لشمس ولا لقمر ولا لنبيّ ولا لصالح كما يفعل بعض السؤّال والمعظّمين كرامةً لفلان وفلانٍ يقسمون بأشياء: إمّا من الأنبياء وإمّا من الصّحابة وإمّا من الصّالحين كما يقال: بكرٌ وعليٌّ ونور الدّين أرسلان والشّيخ عديٌّ والشّيخ جاليد.
وكذلك الحجّ لا يحجّ إلّا إلى بيت اللّه فلا يطاف إلّا به ولا يحلق الرّأس إلّا به ولا يوقف إلّا بفنائه لا يفعل ذلك بنبيّ ولا صالحٍ ولا بقبر نبيٍّ ولا صالحٍ ولا بوثن وكذلك الصّيام لا يصام عبادةً إلّا للّه فلا يصام لأجل الكواكب والشّمس والقمر ولا لقبور الأنبياء والصّالحين ونحو ذلك.
وهذا كلّه تفصيل الشّهادتين اللّتين هما أصل الدّين: شهادة أن لا إله إلّا اللّه وشهادة أنّ محمّدًا عبده ورسوله.
والإله: من يستحقّ إن يؤلّهه العباد ويدخل فيه حبّه وخوفه؛ فما كان من توابع الألوهيّة فهو حقٌّ محضٌ للّه.
وما كان من أمور الرّسالة فهو حقّ الرّسول.

 

.....................................................................................................

القياس الفاسد سبب الخروج عن الشريعة الغراء

ومن أسباب ذلك: الخروج عن الشّريعة الخاصّة الّتي بعث اللّه بها محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم إلى القدر المشترك الّذي فيه مشابهة الصّابئين أو النّصارى أو اليهود وهو القياس الفاسد المشابه لقياس الّذين قالوا: {إنّما البيع مثل الرّبا} فيريدون أن يجعلوا السّماع جنسًا واحدًا والملّة جنسًا واحدًا ولا يميّزون بين مشروعه ومبتدعه ولا بين المأمور به والمنهيّ عنه.
فالسّماع الشّرعيّ الدّينيّ سماع كتاب اللّه وتزيين الصّوت به وتحبيره كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم {زيّنوا القرآن بأصواتكم}
وقال أبو موسى: لو علمت أنّك تستمع لحبّرته لك تحبيرًا.
والصّور والأزواج والسّراريّ الّتي أباحها اللّه تعالى.
والعبادة: عبادة اللّه وحده لا شريك له {في بيوتٍ أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال} {رجالٌ}.
وهذا المعنى يقرّر قاعدة اقتضاء الصّراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم. وينهى أن يشبّه الأمر الدّينيّ الشّرعيّ بالطّبيعيّ البدعيّ لما بينهما من القدر المشترك كالصّوت الحسن ليس هو وحده مشروعًا حتّى ينضمّ إليه القدر المميّز كحروف القرآن فيصير الجّموع من المشترك والمميّز هو الدّين النّافع.

(1 /76)

........................................................................................................

                فصل : العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع

ص (80) وقال شيخ الاسلام ابن تيمية

فإن الإسلام مبني على أصلين : أحدهما : أن نعبد الله وحده لا شريك له . والثاني : أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا نعبده بالأهواء والبدع قال الله تعالى) :  ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون( (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا )الآية . وقال تعالى : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) .

فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم من واجب ومستحب لا يعبده بالأمور المبتدعة كما ثبت في السنن من حديث " العرباض بن سارية " قال " الترمذي " : حديث حسن صحيح . وفي " مسلم " أنه كان يقول في خطبته : ( خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) .

 

............................................................................................................


ولهذا قال الأئمة‏:
‏ لو رأيتم الرجل يطير فى الهواء أو يمشى على الماء، فلا تغتروا به، حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهى، ولهذا يوجد كثير من الناس يطير فى الهواء وتكون الشياطين هى التى تحمله، لا يكون من كرامات أولياء الله المتقين‏.‏
ومن هؤلاء‏:‏ من يحمله الشيطان إلى عرفات فيقف مع الناس، ثم يحمله فيرده إلى مدينته تلك الليلة، ويظن هذا الجاهل أن هذا من أولياء الله، ولا يعرف أنه يجب عليه أن يتوب من هذا، وإن اعتقد أن هذا طاعة وقربة إليه، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لأن الحج الذى أمر الله به ورسوله لابد فيه من الإحرام، والوقوف بعرفة، ولابد فيه من أن يطوف بعد ذلك طواف الإفاضة؛ فإنه ركن لا يتم الحج إلا به، بل عليه أن يقف بمزدلفة، ويرمى الجمار ويطوف للوداع، وعليه اجتناب المحظورات، والإحرام من الميقات، إلى غير ذلك من واجبات الحج‏.‏ وهؤلاء الضالون الذين يضلهم الشيطان يحملهم فى الهواء، يحمل أحدهم بثيابه، فيقف بعرفة ويرجع من تلك الليلة‏.‏ حتى يرى فى اليوم الواحد ببلده ويرى بعرفة‏.‏
ومنهم من يتصور الشيطان بصورته ويقف بعرفة، فيراه من يعرفه واقفًا، فيظن أنه ذلك الرجل وقف بعرفة ‏!‏ فإذا قال له ذلك الشيخ‏:‏ أنا لم أذهب العام إلى عرفة، ظن أنه ملك خلق على صورة ذلك الشيخ، وإنما هو شيطان تمثل على صورته، ومثل هذا وأمثاله يقع كثيرًا، وهى أحوال شيطانية، قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏36‏]‏‏.‏ وذكر الرحمن هو الذكر الذى أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}‏ ‏[‏الحجر‏:‏9‏]‏

مجموع فتاوي ابن تيميه - رحمه الله - ص83

..................................................................................................

تفسير الفاتحة

قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، فذكر (الحمد) بالألف واللام التي تقتضى الاستغراق لجميع المحامد، فدل على أن الحمد كله لله، ثم حصره في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فهذا تفصيل لقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله، وأنه لا يستحق أن يعبد أحد سواه، فقوله: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )) إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته من المحبة والخوف والرجاء والأمر والنهى. (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) إشارة إلى ما اقتضته الربوبية من التوكل والتفويض والتسليم؛ لأن الرب سبحانه وتعالى هو المالك وفيه أيضاً معنى الربوبية والإصلاح، والمالك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء ].قوله عز وجل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] شملت تحقيق أنواع التوحيد جميعاً، لا سيما وأنها سبقت بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، والحمد للمحمود الذي يستحق الحمد لكماله وجلاله عز وجل، والحمد متضمن لمعاني الكمال ومعاني الألوهية والربوبية؛ لأنه لا يستحق الحمد إلا الكامل في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي ربوبيته وإلهيته، خاصة أيضاً إذا أضيف لها رب العالمين، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، الحمد هو للمحمود سبحانه، ثم قوله: (لله) تشمل الألوهية بالضرورة وتشمل الربوبية بالاستلزام، (رب العالمين) تدخل فيها الربوبية بالضرورة والإلهية بالاستلزام أو بالتضمن.ثم بعد ذلك أعقبها بقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وبين الشيخ أن هذه الآية قد جمعت جميع الدين؛ لأن (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )) تعني: جميع العبودية لله عز وجل، وتحقيق توحيد الإلهية، (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) جمعت الأمرين، أي: توحيد الإلهية والربوبية؛ لأن الاستعانة لا تكون إلا بالمعين، والإعانة فعل الله عز وجل، وهو الذي يملك الإعانة مطلقاً، ولا يملك غيره أن يعين العباد من كل وجه، فهو سبحانه له التصرف في الخلق، وبيده مقاليد السماوات والأرض.فإذاً: هو المعين في ربوبيته وإلهيته، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فجمعت جميع أنواع التوحيد.

(1 /89

 

............................................................................................................

هذه الفوائد من أول المجموع إلى فصل في الشرك بالله