وذلك أنهم يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر , والقدر خيره وشره , فيشهدون أن الله هو الرب الإله المعبود , المتفرد بكل كمال , فيعبدونه وحده , مخلصين له الدين , فيقولون إن الله هو الخالق البارئ المصور الرازق المعطي المانع المدبر لجميع الأمور , وأنه المألوه المعبود الموَحَد المقصود , وأنه الأول الذي ليس قبله شيء , الآخر الذي ليس بعده شيء , الظاهر الذي ليس فوقه شيء , الباطن الذي ليس دونه شيء , وأنه العلي الأعلى بكل معنى واعتبار , علو الذات , وعلو القدر , وعلو القهر , وأنه على العرش استوى , استواء يليق بعظمته وجلاله , ومع علوه المطلق وفوقيته , فعلمه محيط بالظواهر والبواطن , والعالم العلوي والسفلي : وهو مع العباد بعلمه , يعلم جميع أحوالهم , وهو القريب المجيب , وإنه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته , والكل إليه مفتقرون في إيجادهم وإيجاد ما يحتاجون إليه في جميع الأوقات , ولا غنى لأحد عنه طرفة عين , وهو الرحمن الرحيم , الذي ما بالعباد من نعمة دينية ولا دنيوية ولا دفع نقمة إلا من الله , فهو الجالب للنعم , الدافع للنقم , ومن رحمته أنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا يستعرض حاجات العباد حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول لا أسأل عن عبادي غيري , من ذا الذي يدعوني فأستجيب له , من ذا الذي يسألني فأعطيه , من ذا الذي يستغفرني فأغفر له : حتى يطلع الفجر . فهو ينزل كما يشاء , ويفعل ما يريد , ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
ويعتقدون أنه الحكيم , الذي له الحكمة التامة في شرعه وفي قدره , فما خلق شيئا عبثا , ولا شرع الشرائع إلا للمصالح والحكم , وأنه التواب العفو الغفور , يقبل التوبة من عباده , ويعفو عن السيئات : ويغفر الذنوب العظيمة للتائبين والمستغفرين والمنيبين , وهو الشكور الذي يشكر القليل من العمل , ويزيد الشاكرين من فضله .
ويصفونه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات الذاتية ,كالحياة الكاملة , والسمع والبصر , وكمال القدرة , والعظمة والكبرياء , والمجد والجلال والجمال , والحمد المطلق , ومن صفات الأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته كالرحمة والرضا , والسخط والكلام , وأنه يتكلم بما يشاء , كيف يشاء , وكلماته لا تنفد , ولا تبيد , وأن القرآن كلام الله غير مخلوق , منه بدا , وإليه يعود , وأنه لم يزل ولا يزال موصوفا بأنه يفعل ما يريد : ويتكلم بما يشاء , ويحكم على عباده بأحكامه القدرية , وأحكامه الشرعية , وأحكامه الجزائية , فهو الحاكم المالك , ومن سواه مملوك محكوم عليه , فلا خروج للعباد عن ملكه ولا عن حكمه .
ويؤمنون بما جاء به الكتاب , وتواترت به السنة . إن المؤمنين يرون ربهم تعالى عيانا جهرة , وإن نعيم رويته والفوز برضوانه أكبر النعيم وألذه , وإن من مات على غير الإيمان والتوحيد فهو مخلد في نار جهنم أبدا , وإن أرباب الكبائر إذا ماتوا على غير توبة ولا حصل لهم مكفر لذنوبهم ولا شفاعة , فإنهم وإن دخلوا النار لا يخلدون فيها , ولا يبقى في النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان إلا خرج منها , وإن الإيمان يشمل عقائد القلوب وأعمالها : وأعمال الجوارح وأقوال اللسان , فمن قام بها على الوجه الأكمل فهو المؤمن حقا , الذي استحق الثواب وسلم من العقاب , ومن انتقص منها شيئا نقص من إيمانه بقدر ذلك , ولذلك كان الإيمان يزيد بالطاعة وفعل الخير , وينقص بالمعصية والشر .
ومن أصولهم السعي والجد فيما ينفع من أمور الدين والدنيا مع الاستعانة بالله , فهم يحرصون على ما ينفعهم ويستعينون بالله . وكذلك يحققون الإخلاص لله في جميع حركاتهم , ويتبعون رسول الله , فالإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول , والنصيحة للمؤمنين طريقهم .

فصل

ويشهدون أن محمدا عبده ورسوله , أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله , وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم , وهو خاتم النبيين , أرسل إلى الإنس والجن بشيرا ونذيرا , وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا , أرسله بصلاح الدين وصلاح الدنيا , وليقوم الخلق بعبادة الله , ويستعينوا برزقه على ذلك . ويعلمون أنه أعلم الخلق وأصدقهم وأنصحهم , وأعظمهم بيانا , فيطيعونه ويحبونه , ويقدمون محبته على محبة الخلق كلهم , ويتبعونه في أصول دينهم وفروعه , ويقدمون قوله وهديه على قول كل أحد وهديه , ويعتقدون أن الله جمع له من الفضائل والخصائص والكمالات ما لم يجمعه لأحد , فهو أعلى الخلق مقاما , وأعظمهم جاها , وأكملهم في كل فضيلة : لم يبق خير إلا دل أمته عليه : ولا شر إلا حذرهم عنه . وكذلك يؤمنون بكل كتاب أنزله الله , وكل رسول أرسله الله , لا يفرقون بين أحد من رسله .

ويؤمنون بالقدر كله , وأن جميع أعمال العباد - خيرها وشرها - قد أحاط بها علم الله , وجرى بها قلمه , ونفذت فيها مشيئته , وتعلقت بها حكمته , حيث خلق للعباد قدرة وإرادة , تقع بها أقوالهم وأفعالهم بحسب مشيئتهم , لم يجبرهم على شيء منها , بل جعلهم مختارين لها , وخص المؤمنين بأن حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم , وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان , وجعلهم من الراشدين بفضله ونعمته , وولى غيرهم ما تولوه ورضوه لأنفسهم من الكفر والفسوق والعصيان بعدله وحكمته .

ومن أصول أهل السنة أنهم يدينون بالنصيحة لله ولكتابه ورسوله , ولأئمة المسلمين وعامتهم , ويأمرون بالمعروف , وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة , ويأمرون ببر الوالدين , وصلة الأرحام , والإحسان إلى الجيران والمماليك والمعاملين , ومن له حق , وبالإحسان إلى الخلق أجمعين .
ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها , وينهون عن مساوئ الأخلاق وأرذلها , ويعتقدون أن أكمل المؤمنين إيمانا , أعظمهم إيمانا ويقينا , وأحسنهم أعمالا وأخلاقا , وأصدقهم أقوالا , وأهداهم إلى كل خير وفضيلة : وأبعدهم من كل رذيلة . ويأمرون بالقيام بشرائع الدين , على ما جاء عن نبيهم فيها وفي صفاتها ومكملاتها , والتحذير عن مفسداتها ومنقصاتها , ويرون الجهاد في سبيل الله ماض مع البر والفاجر , وأنه ذروة سنام الدين , جهاد العلم والحجة , وجهاد السلاح , وأنه فرض على كل مسلم أن يدافع عن الدين بكل ممكن ومستطاع .
ومن أصولهم الحث على جمع كلمة المسلمين , والسعي في تقريب قلوبهم وتأليفها , والتحذير من التفرق والتعادي والتباغض , والعمل بكل وسيلة توصل إلى هذا .

ومن أصولهم النهي عن أذية الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم , والأمر بالعدل والإنصاف في جميع المعاملات , والندب إلى الإحسان والفضل فيها . ويؤمنون بأن أفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , خصوصا الخلفاء الراشدون , والعشرة المشهود لهم بالجنة , وأهل بدر , وبيعة الرضوان والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار , فيحبون الصحابة ويدينون الله بذلك , وينشرون محاسنهم ويسكتون عما قيل عن مساوئهم , ويدينون الله باحترام العلماء الهداة وأئمة العدل ومن لهم المقامات العالية في الدين والفضل المتنوع على المسلمين , ويسألون الله أن يعيذهم من الشك والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وأن يثبتهم على دين نبيهم إلى الممات . فهذه الأصول الكلية بها يؤمنون ولها يعتقدون وإليها يدعون .

 

المرجع / القول السديد للإمام عبد الرحمن السعدي رحمه الله