بسم الله الرحمن الرحيم

السؤال: ما هي الأسبابُ والأعمالُ التي يُضاعفُ بها الثواب؟([1])
الجواب، وبالله التوفيق:
أما مضاعفةُ العملِ بالحسنةِ إلى عَشْرِ أمثالِها، فهذا لا بدَّ منه في كلِّ عملٍ صالح، كما قال تعالى: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)[الأنعام: 160]، وأما المضاعفةُ بزيادةٍ عن ذلك، وهي مُراد السائل، فلها أسبابٌ: إما متعلقةٌ بالعاملِ، أو بالعمل نفسِه، أو بزمانه، أو بمكانه، وآثاره.
* فمن أهمِّ أسباب المضاعفةِ:
أن يحقق العبدُ في عَمَلِهِ الإخلاصَ للمعبودِ والمتابعةَ للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فالعمل إذا كان من الأعمالِ المشروعةِ، وقَصَدَ العبدُ به رضى ربِّه وثوابَهُ، وحقق هذا القصدَ بأن يجعلَه هو الداعيَ له إلى العمل، وهو الغايةَ لعمله، بأن يكون عَمَلُه صادراً عن إيمان بالله ورسوله، وأن يكون الداعي له لأجل أمر الشارع، وأن يكون القصدُ منه وجهَ اللهِ ورضاه، كما ورد هذا المعنى في عدة آياتٍ وأحاديث، كقوله تعالى : (إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27] أي: المتقين الله في عملهم بتحقيق الإخلاص والمتابعة، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"([2]). وغيرها من النصوص.
والقليلُ من العمل مع الإخلاص الكامل يَرجَحُ بالكثير الذي لم يصل إلى مرتبته في قوة الإخلاص
، ولهذا كانت الأعمالُ الظاهرةُ تتفاضل عند الله بتفاضل ما يقوم بالقلوب من الإيمان والإخلاص؛ ويدخل في الأعمالِ الصالحةِ التي تتفاضل بتفاضل الإخلاص: تركُ ما تشتهيه النفوس من الشهوات المحرمة إذا تركها خالصاً من قلبه، ولم يكن لتركها من الدواعي غيرُ الإخلاصِ، وقصةُ أصحابِ الغارِ شاهدةٌ بذلك([3]).
* ومن أسباب المضاعفة:
وهو أصلٌ وأساسٌ لما تقدَّم : صِحَّةُ العَقِيدَةِ، وقوةُ الإيمان بالله وصفاته، وقوةُ إرادة العبد، ورغبتُهُ في الخير؛ فإن أهلَ السنة والجماعة المحضة، وأهلَ العلم الكامل المفصَّل بأسماء الله وصفاته، وقوة لقاء الله تُضاعفُ أعمالُهم مضاعفةً كبيرةً لا يحصل مثلُها، ولا قريبٌ منها لمن لم يشاركوهم في هذا الإيمان والعقيدة. ولهذا كان السلف يقولون: (أهل السنة إن قَعَدتْ بهم أعمالُهم قامت بهم عقائدُهم، وأهلُ البدع إن كثرت أعمالُهم قَعَدتْ بهم عقائدهم)، ووجه الاعتبار أن أهل السنة مهتدون، وأهل البدع ضالون، ومعلومٌ الفرقُ بين مَنْ يمشي على الصراط المستقيم، وبين من هو منحرف عنه إلى طرق الجحيم، وغايتُه أن يكون ضالاً متأولاً.
* ومن أسباب مضاعفة العمل:
أن يكون من الأعمال التي نَفْعُها للإسلام والمسلمين له وقْعٌ وأثرٌ وغَنَاءٌ، ونفعٌ كبيرٌ، وذلك كالجهاد في سبيل الله: الجهاد البدنيِّ، والماليِّ، والقوليِّ، ومجادلةِ المنحرفين كما ذكر اللهُ نفقةَ المجاهدين ومضاعفتَها بسبعمائة ضعف.
ومن أعظم الجهاد سلوكُ طرقِ التعلّم والتَّعليم؛ فإن الاشتغال بذلك لمن صحت نيتُه لا يوازنه عملٌ من الأعمال؛ لما فيه من إحياء العلم والدين، وإرشاد الجاهلين، والدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، والخير الكثير الذي لا يستغني العباد عنه؛
"فمن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة"([4])، ومن ذلك المشاريع الخيرية التي فيها إعانةٌ للمسلمين على أمور دينهم ودنياهم التي يستمر نفعُها، ويتسلسل إحسانُها، كما ورد في (الصحيح): "إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به من بعده، أو ولدٍ صالح يدعو له"([5]).
* ومن الأعمال المضاعفة: العمل الذي إذا قام به العبد، شاركه فيه غيره، فهذا أيضاً يضاعَفُ بحسب مَنْ شاركه، ومن كان هو سببَ قيامِ إخوانه المسلمين بذلك العمل؛ فهذا بلا ريب يزيد أضعافاً مضاعفةً على عمل إذا عمله لم يشاركه فيه أحد، بل هو من الأعمال القاصرة على عاملها، ولهذا فضَّل العلماء الأعمال المتعدية للغير على الأعمال القاصرة.
* ومن الأعمال المضاعفة: إذا كان العمل له وقعٌ عظيم، ونفعٌ كبير، كما إذا كان فيه إنجاءٌ من مهلكةٍ وإزالةُ ضرر المتضررين، وكشفُ الكرب عن المكروبين. فكم من عمل من هذا النوع يكون أكبر سببٍ لنجاة العبد من العِقَابِ، وفوزه بجزيل الثواب، حتى البهائمُ إذا أُزيل ما يضرُّها كان الأجر عظيماً؛ وقصـة المرأة البغيِّ التي سقـت الكلبَ الذي الذي كاد يموت من العطش؛ فَغُفِرَ لها بَغْيُها، شاهدةٌ بذلك([6]).
* ومن أسباب المضاعفة: أن يكون العبدُ حَسَنَ الإسْلاَمِ، حسنَ الطريقة، تاركاً للذنوب، غير مُصِرٍّ على شيء منها؛ فإن أعمال هذا مضاعفةٌ كما ورد بذلك الحديث الصحيح: "إذا أحسن أحدُكم إسلامَهُ فكل حسنة يعملها تُكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.." الحديث([7]).
* ومن أسبابها: رِفْعَةُ العاملِ عند الله، ومقامُهُ العَالي في الإسلام، فإن الله تعالى شكورٌ حليمٌ، لهذا كان أجرُ نساء النبي لله مضاعفاً، قال تعالى: (وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ) [الأحزاب: 31]، وكذلك العالِمُ الربانيُّ، وهو العالِمُ العامِلُ المعلِّم تكون مضاعفةُ أعمالِه بحسب مقامه عند الله كما أن أمثال هؤلاء إذا وقع منهم الذنب كان أعظمَ من غيرهم؛ لما يجب عليهم من زيادة التحرّز، ولما يجب عليهم من زيادة الشكر لله على ما خصهم به من النعم.
* ومن الأسباب: الصدقةُ من الكسب الطيب، كما وردت بذلك النصوص.
* ومنها: شرفُ الزمان، كرمضانَ وعشرِ ذي الحجة ونحوِها، وشرفُ المكان، كالعبادة في المساجد الثلاثة، والعبادةُ في الأوقات التي حثَّ الشارعُ على قصدها، كالصلاة في آخر الليل، وصيام الأيام الفاضلة ونحوها، وهذا راجع إلى تحقيق المتابعةِ للرسول المُكَمِّلِ لله مع الإخلاص للأعمال المنمّي لثوابها عند الله.
* ومن أسباب المضاعفة: القيامُ بالأعمال الصالحة عند المعارضات النفسية، والمعارضات الخارجية؛ فكلما كانت المعارضات أقوى والدواعي للترك أكثر كان العمل أكمل، وأكثر مضاعفةً، وأمثلة هذا كثيرة جداً ولكن هذا ضابطُها.
* ومن أهم ما يضاعف فيه العملُ: الاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان،
والمراقبة، وحضور القلب في العمل، فكلما كانت هذه الأمور أقوى، كان الثواب أكثر، ولهذا ورد في الحديث:
"ليس لك من صلاتك إلا ما عَقَلْتَ منها"([8]). فالصلاة، ونحوها، وإن كانت تجزئُ إذا أتى بصورتها الظاهرة، وواجباتها الظاهرة والباطنة، إلا أن كمالَ القبولِ، وكمالَ الثوابِ، وزيادةَ الحسناتِ، ورفعةَ الدرجاتِ، وتكفيرَ السيئاتِ، وزيادةَ نورِ الإيمان بحسب حضور القلب في العبادة. ولهذا كان من أسباب مضاعفة العمل حصولُ أثره الحسن في نفع العبد، وزيادةِ إيمانه، ورقة قلبه، وطمأنينته، وحصول المعاني المحمودة للقلب من آثار العمل؛ فإن الأعمال كلما كملت كانت آثارُها في القلوب أحسنَ الآثارِ، وبالله التوفيق.
* ومن لطائف المضاعفة: أن إِسْرَارَ العمل قد يكون سبباً لمضاعفة الثواب، فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله: "رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يمينه،.. ومنهم رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه"([9]).كما أن إعلانها قد يكون سبباً للمضاعفة كالأعمال التي تحصل فيها الأسوة والاقتداء، وهذا مما يدخل في القاعدة المشهورة: قد يَعْرِضُ للعمل المفضول من المصالح ما يصيِّره أفضل من غيره.
ومما هو كالمتفق عليه بين العلماء الربانيين أن الاتصاف في كل الأوقات بقوة الإخلاص لله، ومحبة الخير للمسلمين مع اللهج بذكر الله لا يلحقها شيء من الأعمال، وأهلها سابقون: لكلّ فضيلةٌ وأجرٌ وثوابٌ، وغيرها من الأعمال تبع لها؛ فأهل الإخلاص والإحسان والذكر هم السابقون السابقون المقربون في جنات النعيم.

..........................
([1]) الفتاوى السعدية، المسألة التاسعة، ص 43.
([2]) رواه البخاري (1901، 2014)، ومسلم (759، 760).
([3]) يشير رحمه الله إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم إذ أصابهم مطر، فأووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق؛ فليَدْعُ كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه.
فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عَمِلَ لي على فَرَقٍ من أرزٍّ، فذهب وتركه، وأني عَمَدْتُ إلى ذلك الفَرَق فزرعته، فصار من أمره أني اشتريت بقرًا، وأنه أتاني يطلب أجره، فقلت له: اعْمَدْ إلى تلك البقر فَسُقْها، فقال لي: إنَّما لي عندك فرق من أرز. فقلت له:اعمد إلى تلك البقر؛ فإنها من ذلك الفرق، فساقها؛ فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرِّج عنا؛ فانساخت عنهم الصخرة. فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عنهما ليلةً، فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما فَيَسْتَكِنَّا؛ لشربتهما، فلم أزل أنتظر حتى طلوع الفجر؛ فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا؛ فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء، فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عمٍّ من أحب الناس إليَّ، وأني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرت، فأتيتها بها، فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلما قعدت بين رجليها فقالت: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا؛ ففرج الله عنهم، فخرجوا". رواه البخاري (2333، 3465، 5974)، ومسلم (2743).
([4]) رواه مسلم (2699).
([5]) رواه مسلم (1631)، وفي معناه حديث: "سبعٌ يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علَّم علماً, أو أجرى نهراً, أو حفر بئراً, أو غرس نخلاً, أو بنى مسجداً, أو ورث مصحفاً, أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته" صحيح الجامع (3596).
([6]) يشير رحمه الله إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بينما كلبٌ يُطيف بركيّة بئر كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل؛ فنزعت موقها [خفها] واستقت له به، فسقته إياه؛ فغُفِر لها به" رواه البخاري (3321، 3467) ومسلم (2245).
([7]) رواه البخاري (42) ومسلم (129).
([8])" لم يثبت مرفوعا، إنما يُروى عن بعض السلف". أنظر السلسلة الضعيفة (6941). وفي معناه حديث: "إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها". صحيح الجامع (1626)
([9]) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" رواه البخاري (660، 1423، 6806) ومسلم (1031).