1 بدون عنوان

الحمد لله يرحم الرحماء من عباده ، والصلاة والسلام على محمد ٍ ، وصفه ربه بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ..

أما بعد ...فإن من العبادات القلبية التي يتقرب المؤمنون بها إلى ربهم جلَّ وعلا ، أن يرحم بعضهم بعضا ..

والرحمة خلق فاضل يتضمن الرأفة والعطف والرقة والودَّ ، ومحبة وصول الخير للآخرين ..وهذه الرحمة من مقتضى الأخوة التي يقول عنها جلَّ وعلا  (إنّمَا المُؤمِنُونَ إخْوَة )

وإنما جعل الله المؤمنين إخوة ليتعاطفوا ويتراحموا،

وقد عاب النبي صلَّى الله عليه وسلم على رجل فقال له : أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة ..من لا يرحم لا يُرحم .

ولما دمعت عينا النبي صلَّى الله عليه وسلم لموت أحد أسباطه أي أبناء بنته ، قال سعد ابن عباده : ما هذا يا رسول الله؟! فقال : إنما هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ، وفي الحديث الآخرلا تُنزع الرحمة إلا من شقي  وقال صلَّى الله عليه وسلم : (الراحمون يرحمهم الرحمن..ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) ..

ومن صفات النبي صلّى الله عليه وسلم أنه رحيم بالمؤمنين ، كما قال تعالى واصفاً نبيه صلَّى الله عليه وسلم ( بِالمُؤمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيم) أي شديد الرأفة و الرحمة بهم ، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن والدِيهم ، وقال تعالى ( فَبِمَا رَحْمَةٍ منَ اللهِ لِنتَ لَهم وَلَو كُنتَ فَضّاً غَلِيظَ القَلبِ لانفَضّوا مِن حَولِكَ )

وقد وصف الله جلَّ وعلا نبيه محمد صلَّى الله عليه وسلم فقال( وَيُؤمِنُ لِلمُؤمِنين وَرَحمَةٌ لِلّذِينَ آمَنُوا ) وكان النبي صلَّى الله عليه وسلم يُجلِسُ الحسن و أسامه على فَخِذيه ويقول:  (اللهم ارحمهما ..فإني ارحمهما ) فصَّلى الله على هذا النبي الكريم الذي وصفه ربه بقوله ( لَقد جَاءَكُم رَسُولٌ منْ أنفُسِكم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتم حَرِيصٌ عَلَيكم بِالمُؤمِنينَ رَؤوفٌ رَحِيم ) ، بل إن الله جلَّ وعلا قد وصف أصحاب هذا النبي الكريم بهذه الصفة الفاضلة ، صفة الرحمة فيما بينهم ، يقول الله تعالى ( مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الكُفّارِ رُحَمَاءُ بَينَهم ).

لقد أوصى الله تعالى المؤمنين بالتراحم فيما بينهم ، فقال جلَّ وعلا واصفاً عباده المؤمنين( وَتَواصَوا باِلمَرْحَمَه).

جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلَّى الله عليه وسلم قال : مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم ، كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى , وخصوصا ً إذا كان هناك من هو أصغر منك ، فإنه يشرع لك أن ترحمه ..جاء في الحديث أن النبي صلَّى الله عليه وسلم قال :ليس منا من لم يرحم صغيرنا، أما بالنسبة للآية السابقة التي فيها ( ثُمّ َكاَنَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا وَتوَاصَوا باِلصّبْرِ وَتوَاصَوا باِلمَرْحَمَة ) فالمراد بهذه الآية ،أنه قد أوصى بعضهم بعضا برحمة الخلق ، مما يُثمر إعطاء مُحتاجهم وتعليم جاهلهم والقيام بما يحتاجون إليه من جميع الوجوه ، مع مساعدتهم لقضاء مصالحهم الدينية والدنيوية ، وأن يُحب المرء لإخوانه ما يحب لنفسه ، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه، ومن كان بهذه الصفة .. فهؤلاء هم الذين وفقهم الله لاقتحام العقبة وتجاوز النار إلى الجنة، وبالصبر تكون الشجاعة .. وبالمرحمة يكون الكرم والإحسان.

ومما يدخل في رحمة المؤمنين بعضهم لبعض ، أن يعفو بعضهم عن زلات بعضهم الآخر .. جاء في الحديث أن النبي قال: إن لله مائة رحمة ، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والوحوش والهوام ، فا بها يتعاطفون و بها يتراحمون و بها تعطف الوحش على أولادها ، وادّخَر تسع وتسعين رحمة لنفسه يرحم بها عباده  ، ولفظ البخاري :جعل الله الرحمة مئة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا ، وأنزل في الأرض جزءاً واحدا فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه  ، قال مالك ابن دينار :( ما ضرب عبد بعقوبة ..أعظم من قسوة قلب ، وما غضب الله على قوم ، إلا نزع الرحمة من قلوبهم ) ..

ومن أسباب رحمة العباد بعضهم لبعض ..محبتهم لبعضهم ، قال الله تعالى ( إنَّ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهمُ الرّحَمَنِ وُدّا ) أي يلقي بينهم المحبة ، فيحب بعضهم بعضا ، فيتراحمون ويتعاطفون بما جعل الله لبعضهم في قلوب بعض ٍ من المحبة ، وفي بعض الأحيان ..لا يرغب المرحوم وصول الرحمة له ، ويكرهها ..ومع ذلك ،يستحب للعبد أن يرحم من كان كذلك ولو بإيصال ما يكرهه مما ينفعه ، ومثال ذلك ..الوالد , فإنه يُؤمر بتأديب ولده وتعليمه رحمة به ، ولو كره الولد ذلك وشقّ عليه ..كالوالد .. يُلزم ابنه بشرب الدواء مع كراهيته له ، رحمة به وأملاً في شفاءه .

ولإبقاء التراحم بين المؤمنين ..نهت الشريعة عن أن يؤذي المسلم إخوانه المسلمين ، قال الله تعالى ( والّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكْتسَبوا فَقد احتمَلوا بُهتَانَاً وَإثمَاً مُبينَا ) .

إن تعاليم الشريعة ..كلها رحمة , و ليست رحمتها مختصة بالمسلمين , بل هي رحمة لجميع المخلوقين , كما قال تعالى( وَمَا أَرسَلنَاكَ إلا رَحْمَة ً لِلعَالَمِين ) , وفي الحديث أن النبي صّلى الله عليه وسلم قال :( إنّا لم نُبعث طعّانين ولا لعّانين ، ولكنّا بُعثنا رحمة للعالمين ) ، وقد ورد عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال:  إنما أنا رحمة مهداة , ومن هنا ..كان النبي صلّى الله عليه وسلم يحسن إلى الخلق , ومن جملة ذلك أن يرحم الخلق بتعليمهم وإرشادهم ودعوتهم وبيان ما ينفعهم وما يضرهم , ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلم رحمة في حق كل أحدٍ من الناس بحسبه , حتى المكذبين له هو في حقهم رحمة ..ولهذا لما قال ملك الجبال :( دعني أُطبق عليهم الأخشبين , قال : لا ، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله )..

أسأل الله جلَّ وعلا أن يجعل الرحمة في قلوبنا ...هذا والله أعلم , وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .....

 

سلسلة قلوب الصائمين

 

لفضيلة الشيخ د.سعد الشثري