بسم الله الرحمن الرحيم

فصل هام في تفسير قوله تعالى:

(قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَ ٰلِكَ فَلۡیَفۡرَحُوا۟ هُوَ خَیۡرࣱ مِّمَّا یَجۡمَعُونَ﴾ [يونس ٥٨]

وَقَدْ دارَتْ أقْوالُ السَّلَفِ عَلى أنَّ فَضْلَ اللَّهِ ورَحْمَتَهُ هي الإسْلامُ والسُّنَّةُ وعَلى حَسَبِ حَياةِ القَلْبِ يَكُونُ فَرَحُهُ بِهِما، وكُلَّما كانَ أرْسَخَ فِيهِما كانَ قَلْبُهُ أشَدَّ فَرَحًا حَتّى إنَّ القَلْبَ لَيَرْقُصُ فَرَحا إذا باشَرَ رُوحَ السُّنَّةِ أحْزَنَ ما يَكُونُ النّاسُ، وهو مُمْتَلِئٌ أمْنًا أخْوَفَ ما يَكُونُ النّاسُ.

فَإنَّ السُّنَّةَ حِصْنُ اللَّهِ الحَصِينُ الَّذِي مَن دَخَلَهُ كانَ مِنَ الآمِنِينَ. وبابُهُ الأعْظَمُ الَّذِي مَن دَخَلَهُ كانَ إلَيْهِ مِنَ الواصِلِينَ تَقُومُ بِأهْلِها وإنْ قَعَدَتْ بِهِمْ أعْمالُهم ويَسْعى نُورُها بَيْنَ أيْدِيهِمْ إذا طُفِئَتْ لِأهْلِ " البِدَعِ والنِّفاقِ أنْوارُهم "، وأهْلُ السُّنَّةِ: هُمُ المُبْيَضَّةُ وُجُوهُهم إذا اسْوَدَّتْ وُجُوهُ أهْلِ البِدْعَةِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦] الآيَةَ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أهْلِ السُّنَّةِ والِائْتِلافِ وتَسْوَدُّ وُجُوهُ أهْلِ البِدْعَةِ والتَّفَرُّقِ.

وَهِيَ الحَياةُ والنُّورُ " اللَّذانِ " بِهِما سَعادَةُ العَبْدِ وهُداهُ وفَوْزُهُ قالَ جَلَّ وعَلا: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنها. . .﴾ [الأنعام: ١٢٢].

فَصاحِبُ السُّنَّةِ: حَيُّ القَلْبِ، مُسْتَنِيرُ القَلْبِ، وصاحِبُ البِدْعَةِ: مَيِّتُ القَلْبِ مُظْلِمُهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ في كِتابِهِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ وجَعَلَهُما صِفَةَ أهْلِ الإيمانِ وجَعَلَ ضِدَّهُما صِفَةَ مَن خَرَجَ عَنِ الإيمانِ، فَإنَّ القَلْبَ الحَيَّ المُسْتَنِيرَ هو الَّذِي عَقَلَ عَنِ اللَّهِ، وأذْعَنَ وفَهِمَ عَنْهُ، وانْقادَ لِتَوْحِيدِهِ، ومُتابَعَةِ ما بُعِثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.

والقَلْبُ المَيِّتُ المُظْلِمُ الَّذِي لَمْ يَعْقِلْ عَنِ اللَّهِ ولا انْقادَ لِما بُعِثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولِهَذا يَصِفُ سُبْحانَهُ هَذا الضَّرْبَ مِنَ النّاسِ بِأنَّهم أمْواتٌ غَيْرُ أحْياءٍ، وبِأنَّهم في الظُّلُماتِ لا يَخْرُجُونَ مِنها، ولِهَذا كانَتِ الظُّلْمَةُ مُسْتَوْلِيَةً عَلَيْهِمْ في جَمِيعِ جِهاتِهِمْ فَقُلُوبُهم مُظْلِمَةٌ تَرى الحَقَّ في صُورَةِ الباطِلِ، والباطِلَ في صُورَةِ الحَقِّ، وأعْمالُهم مُظْلِمَةٌ، وأقْوالُهم مُظْلِمَةٌ، وأحْوالُهم كُلُّها مُظْلِمَةٌ، وقُبُورُهم مُمْتَلِئَةٌ عَلَيْهِمْ ظُلْمَةً.

وَإذا قُسِمَتِ الأنْوارُ دُونَ الجِسْرِ لِلْعُبُورِ عَلَيْهِ بَقُوا في الظُّلُماتِ، ومُدْخَلُهم في النّارِ مُظْلِمٌ، وهَذِهِ الظُّلْمَةُ هي الَّتِي خُلِقَ فِيها الخَلْقُ أوَّلًا، فَمَن أرادَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِهِ السَّعادَةَ أخْرَجَهُ مِنها إلى النُّورِ، ومَن أرادَ بِهِ الشَّقاوَةَ تَرَكَهُ فِيها، كَما رَوى الإمامُ أحْمَدُ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمَةٍ ثُمَّ ألْقى عَلَيْهِمْ مِن نُورِهِ، فَمَن أصابَهُ مِن ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدى ومَن أخْطَأهُ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ أقُولُ جَفَّ القَلَمُ عَلى عِلْمِ اللَّهِ» ، وكانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْألُ اللَّهَ تَعالى أنْ يَجْعَلَ لَهُ نُورًا في قَلْبِهِ وسَمْعِهِ وبَصَرِهِ وشَعْرِهِ وبَشَرِهِ ولَحْمِهِ وعَظْمِهِ ودَمِهِ ومِن فَوْقِهِ ومِن تَحْتِهِ وعَنْ يَمِينِهِ وعَنْ شِمالِهِ وخَلْفَهُ وأمامَهُ وأنْ يَجْعَلَ ذاتَهُ نُورًا، فَطَلَبَ ﷺ النُّورَ لِذاتِهِ ولِأبْعاضِهِ ولِحَواسِّهِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ ولِجِهاتِهِ السِّتِّ.

وَقالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " المُؤْمِنُ مُدْخَلُهُ مِن نُورٍ، ومُخْرَجُهُ مِن نُورٍ، وقَوْلُهُ نُورٌ، وعَمَلُهُ نُورٌ. . " وهَذا النُّورُ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ وضَعْفِهِ يَظْهَرُ لِصاحِبِهِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيَسْعى بَيْنَ يَدَيْهِ ويَمِينِهِ. فَمِنَ النّاسِ مَن يَكُونُ نُورُهُ كالشَّمْسِ، وآخَرُ كالنَّجْمِ، وآخَرُ كالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ، وآخَرُ دُونَ ذَلِكَ حَتّى إنَّ  مِنهم مَن يُعْطى نُورًا عَلى رَأْسِ إبْهامِ قَدَمِهِ يُضِيءُ مَرَّةً ويُطْفِئُ أُخْرى، كَما كانَ نُورُ إيمانِهِ ومُتابَعَتِهِ في الدُّنْيا كَذَلِكَ، فَهو هَذا بِعَيْنِهِ يَظْهَرُ هُناكَ لِلْحِسِّ والعِيان.

وَقد تنوعت عِبارات السّلف في تَفْسِير الفضل والرَّحْمَة والصَّحِيح أنَّهُما الهدى والنعْمَة ففضله هداه ورَحمته نعْمَته ولذَلِك يقرن بَين الهدى والنعْمَة كَقَوْلِه في سُورَة الفاتِحَة ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ومن ذَلِك قَوْله لنَبيه يذكرهُ بنعمه عَلَيْهِ ﴿ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى ووَجَدَكَ ضالًا فَهَدى ووَجَدَكَ عائِلًا فَأغْنى﴾ فَجمع لَهُ بَين هدايته لَهُ وإنعامه عَلَيْهِ بإيوائه وإغنائه ومن ذَلِك قَول نوح ﴿يا قَوْمِ أرَأيْتُمْ إن كنت على بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي وآتانِي رَحْمَةً مِن عِنْده﴾ وقَول شُعَيْب ﴿أرَأيْتُمْ إن كنت على بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي ورَزَقَنِي مِنهُ رِزْقًا حَسَنا﴾ وقالَ عَن الخضر ﴿فَوَجَدا عَبْدًا مِن عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا علما﴾ وقالَ لرَسُوله ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فتحا مُبينًا لغفر لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا ويَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ وقالَ ﴿وَأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيما﴾ وَقالَ ﴿ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ ما زَكى مِنكم أحد أبدا﴾ ففضله هدايته ورَحمته وإنعامه وإحسانه إلَيْهِم وبره بهم وقالَ ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يشقى﴾ والهدى مَنعه من الضلال والرَّحْمَة مَنعه من الشَّقاء وهَذا هو الَّذِي ذكره في أوّل السُّورَة في قَوْله طه ﴿ما أنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآن لتشقى﴾ فَجمع لَهُ بَين إنْزال القُرْآن عَلَيْهِ ونفي الشَّقاء عَنهُ كَما قالَ في آخرها في حق أتْباعه فَلا يَضِلُّ ولا يشقى فالهدى والفضل والنعْمَة والرحمة متلازمات لا يَنْفَكّ بَعْضها عَن بعض كَما أن الضلال والشقاء متلازمان لا يَنْفَكّ أحدهما عَن الآخر قالَ تَعالى ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في ضلال وسعر﴾

والسعر جمع سعير وهو العَذاب الَّذِي هو غايَة الشَّقاء وقالَ تَعالى ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والأِنْسِ لَهم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ولَهم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ولَهم آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولَئِكَ كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ أُولَئِكَ هم الغافلون﴾ وقالَ تَعالى عَنْهُم ﴿وَقالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أوْ نَعْقِلُ ما كُنّا في أصْحاب السعير﴾ ومن هَذا أنه سُبْحانَهُ يجمع بَين الهدى وانشراح الصَّدْر والحياة الطيّبة وبَين الضلال وضيق الصَّدْر والمعيشة والضنك قالَ تَعالى ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ومَن يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ لَهُ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ وقالَ ﴿أفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإسْلامِ فَهو عَلى نُورٍ من ربه﴾ وكَذَلِكَ يجمع بَين الهدى والإنابة وبَين الضلال وقسوة القلب قالَ تَعالى ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ وقالَ تَعالى ﴿فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهم مِن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.

والهدى والرَّحْمَة وتوابعها من الفضل والإنعام كُله من صفة العَطاء والإضلال، والعَذاب وتوابعها من صفة المَنع وهو سُبْحانَهُ يصرف خلقه بَين عطائه ومنعه وذَلِكَ كُله صادر عَن حِكْمَة بالِغَة وملك تامّ وحمد تامّ فَلا إلَه إلّا الله"

التفسير القيم لابن القيم -رحمه الله تعالى -