التوحيد مصدر وحَّد يوحد، توحيد، ومعناه التفرد، والانفراد (1) .

وأما الألوهية فهي مأخوذة من آله، إلاهةً وألوهة، وهي العبادة، والجمع آلهة، والإله كل ما عبد بحق وهو الله عز وجل، أو بغير حق كالأصنام وغيرها مما يعبد من دون الله عز وجل (2) .

وقيل مأخوذة من "إلاهٍ، وتقديرها فُعلانية بالضم: تقول إلاه بين الإلاهية والإلهانية، وأصله من أله يأله إذا تحير، يريد إذا وقع العبد في عظمة الله تعالى وجلاله .. وصرف همه إليها أبغض الناس حتى لا يميل قلبه إلى أحد" (3) .

وقيل مأخوذ من ولاه، وقيل لاه يلوه لياها وفيه أقوال أخرى (4) والأول المعتمد.

وأما معنى توحيد الألوهية من حيث الشرع فالمراد به: إخلاص العبادة لله تعالى وحده لا شريك له، والعبادة هي "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الباطنة والظاهرة" (5)، فلا يدعى إلا الله تعالى، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يذبح إلا له، ولا يطاع إلا هو، ولا يرجى إلا هو .. الخ.

وهذا هو التوحيد الطلبي، وتوحيد القصد والإرادة، التوحيد العلمي الذي بينه جل وعلا في آيات كثيرة منها قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ{1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ{2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ{3}) 

[الكافرون:1-3].

والذي من أجله بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين فكل نبي أرسل في قومه فهو يدعوهم إلى توحيد الله جل وعلا وعدم الإشراك به، قال تعالى:  (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ) [المؤمنون:23].

وهذا هود عليه السلام يقول: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ{65}) [الأعراف:65].

وهذا صالح يقول: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَاتَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{73}) [الأعراف:73].

وهذا شعيب يقول: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{85}) [الأعراف:85].

وهكذا جميع الأنبياء والرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى:  (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ{25}) [الأنبياء:25].

ومن أجل هذا التوحيد كانت الخصومة بين الأنبياء وأقوامهم وأُنزلت لأجله الكتب، ومن أجله جرد السيف على أهل الشرك والجحود، ومن أجله خلقت الجنة والنار، وهذا التوحيد أنكره الكفار وأبوا قبولـه مع اعترافهم بتوحيد الربوبية، ومع هذا فلم يقبل منهم، وكانوا من الخالدين في جهنم والعياذ بالله.

وفي سورة يونس – عليه السلام – تظهر الدعوة إلى هذا التوحيد في كثير من الآيات الكريمة يقول جل ذكره مبيناً عظمته وقدرته، وداعياً إلى إخلاص العبادة له: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ{3}) [يونس:3].

يقول ابن جرير – رحمه الله – عند تفسير هذه الآية:

"هذا الذي صفته سيدكم ومولاكم لا من لا يسمع، ولا يبصر، ولا يدبر، ولا يقضي من الآلهة والأوثان فاعبدوه يقول فاعبدوا ربكم الذي هذه صفته، وأخلصوا له العبادة، وأفردوا له الألوهة والربوبية بالذلة منكم له دون أوثانكم، وسائر ما تشركون معه في العبادة"

ا.هـ(6) .

ويقول جل ذكره: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ{13} ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ{14}) [يونس:13-14].

ويقول تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُوَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ{18} )[يونس:18].

وقوله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ{28} فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ{29}) [يونس:28-29].

ويبين جل وعلا اعترافهم بربوبيته مع عدم إقرارهم بألوهيته فيقول تعالى: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ{31} فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ{32}) [يونس:31-32].

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في تقرير هذا التوحيد.

وفي السنة بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التوحيد أكمل بيان وكان أول ما يدعو إليه المشركون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ففي حديث معاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن، قال له: "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم، تؤخذ من غنيهم فتُرد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس" (7) .

وعن معاذ بن جبل – أيضاً – قال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حقهم عليه؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: ألا يعذبهم" (8).

وهذه الأحاديث وغيرها، دليل على مكانة هذا التوحيد، وأنه أعظم الأعمال وعليه مدار صلاحها وفسادها (9).

 

دلائل توحيد الألوهية:

وأما دلائل هذا التوحيد فكثيرة ولسورة يونس – عليه السلام – منها أوفر نصيب ومن ذلك:

أولاً: ما خلقه الله عز وجل في السماوات والأرض مما سبق بيانه وتفصيله (10) من خلق السماوات والأرض، وتدبير الأمر، وخلق الشمس القمر، واختلاف الليل والنهار، وجريان الفلك في البحر، والرياح التي تجري بأمر الله، والرزق، وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي، وبدء الخلق وإعادته وغير ذلك من المظاهر الكونية التي تدل دلالة واضحة على أن ذلك الخالق، البارئ، المصور، هو المستحق للعبادة وحده دون سواه.

فكيف تصرف العبادة لغيره وهو الخالق، الرب وجميع الخلق لا حول لهم ولا قوة، قال جل وعلا: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُأَفَلاَ تَذَكَّرُونَ{3}) [يونس:3].

وقال تعالى: (إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ{6}) [يونس:6].

ويقول الله تعالى: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ{31} فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ{32}) [يونس:31-32].

والمعنى أفلا تصرفون العبادة له، وهون خالقكم، ورازقكم؟! وكيف تصرفونها إلى آلهة ليست لها من صفات الربوبية شيء؟!

لاشك أن هذا من أعظم الضلال.

فكل من عبد غير الله، أو صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله فقد حاد عن السبيل وسلك سبيل الغواية، فهذه الأدلة الكونية العظيمة لابد لها من موجد واجب الوجود، وهو الله تعالى، إذ لا يستطيع ذلك إلا هو سبحانه.

قال تعالى: (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ{34}) [يونس:34].

ولهذا أعقب الله تعالى هذا الاستفهام بقوله تعالى: (مَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ{36}) [يونس:36].

 

ثانياً: خلق الإنسان:

فهذا الإنسان المخلوق من نطفة، فيه من دلائل توحيد الله عز وجل ما يقيم الحجة على المشركين المكذبين قال تعالى:  (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ{21})

[الذاريات:21] .

وقد سبق الحديث عن خلق الإنسان في الفصل الأول (11)وإنما أوردته هنا إشارة إلى دلائل توحيد الله تعالى في خلقه، والتي يصورها الرب في قوله تعالى: (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ{34}) [يونس:34]. وقوله تعالى:  (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ{31})  [يونس:31].

فما دام أن هذه الأصنام لا تستطيع الخلق ولا الإعادة، ولا تملك السمع ولا البصر ولا تستطيع إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي، وهم مقرون بذلك معترفون به، فكيف تصرف لها العبادة، ولا تصرف للخالق الذي لولاه لما وجد خلق، ولا إعادة،ولا سمع، ولا بصر، فأنى يصرفون.

 

 

ثالثاً: شهادة الفطرة:

إن الفطرة لا تتوجه إلى غير خالقها، ودليل ذلك ما ذكره الرب جل وعلا في قوله: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لنكونن مِنَ الشَّاكِرِينَ{22}) [يونس:22].

فعند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف، المؤذنة بالهلاك، يحصل الدعاء لله والإخلاص له ظاهراً وباطناً، مع التزام الشكر لله جل وعلا فإذا استجاب لهم رجعوا على حالهم من دعاء غيرهم والتعلق بما سواه (12)قال تعالى: َ(فلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ{23}) [يونس:23].

وهذا من أبرز دلائل التوحيد فمادام أنهم لا يلجئون في الشدة إلا إلى الله ولا يكشفها عنهم إلا هو، إذن فالإخلاص والتوحيد هو المطلوب في سائر الأوقات والأزمان، ولما ركب عكرمة بن أبي جهل (13) البحر وماج البحر وأخذوا يتضرعون إلى الله جل وعلا كان ذلك سبب إسلامه والقصة، كما رويت عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة عكرمة بن أبي جهل، وعبدالله بن خطل (14)ومقيس بن صبابة (15) ، وعبدالله بن أبي السرح (16)فأما عبدالله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث (17)وعمار بن ياسر وكان أشب الرجلين فقتله، وأما مقيس بن صبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصفة فقال أصحاب السفينة أخلصوا آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً هاهنا، فقال عكرمة والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجني في البر غيره اللهم إن لك علي عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً صلى الله عليه وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريما، فجاء فأسلم .. (18)الحديث، فهذه الفطرة لا تتجه إلى غير خالقها، ولكن قد يعتريها غطاء من الشهوات والشبهات فيصرفها عن بارئها، لكنها عندما تفيق منه لا تتجه إلا إلى بارئها.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1)   انظر الصحاح (6/2223) ولسان العرب (3/450) مادة (وحد)، وبصائر ذوي التمييز (5/169-170).

(2)   انظر لسان العرب (13/467 وما بعدها) مادة أله، والقاموس المحيط، ص1603.

(3)   النهاية في غريب الحديث والأثر (1/62)، والصحاح (6/2224)، ولسان العرب (13/469).

(4)   انظر المفردات في غريب القرآن للراغب، ص21-22.

(5)   العبودية لابن تيمية ص4، ومجموع الفتاوى (14/378-380)، وبدائع الفوائد لابن القيم (1/138).

(6)   جامع البيان: 11/83.

(7)   رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى رقم: 6937 (ج6/2685)، ورواه أيضاً في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة حديث رقم 1331 (2/505) به بنحوه، ورواه في كتاب الزكاة أيضاً باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة عن يحيى بن عبدالله به بنحوه، حديث رقم: 1389 (ج2/529). ورواه في باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد على الفقراء حديث رقم 1425  (2/44) عن زكريا بن إسحاق به بنحوه.

  ورواه مسلم في كتاب الإيمان باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام رقم: 29

(1/50) عن زكريا بن إسحاق بنحوه وزاد (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، ورواه أيضاً في كتاب الإيمان من طريق أخرى.

(8)   رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الله تبارك وتعالى حديث رقم 6938 (ج6/2685). ورواه في كتاب الجهاد باب اسم الفرس والحمار حديث 2701 (ج3/2701) من طريق أخرى عن معاذ بن جبل بنحوه وزاد (فقلت يا رسول الله، أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا)، ورواه في كتاب اللباس باب إرداف الرجل خلف الرجل رقم 5622 (ج5/2224) عن معاذ بن جبل بأطول منه. ورواه في كتاب الاستئذان باب من أجاب بلبيك وسعديك رقم: 5912 (ج5/2312) عن معاذ بنحوه، وفي كتاب الرقاق باب من جاهد نفسه في طاعة الله رقم: 6135 (ج5/2384) عن معاذ بن جبل، ورواه مسلم في كتاب الإيمان باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، حديث رقم: 50 (ج1/59)، ورواه في كتاب الإيمان بطرق أخرى أيضاً.

(9)   وإذا علم ذلك وظهر لنا مكانة هذا التوحيد وأنه التوحيد الذي دعت إليه الرسل وهم أكمل الناس توحيداً، عرفنا ضلالة الصوفية في تقسيمهم التوحيد إلى ثلاثة أقسام توحيد العامة الذي يصح بالشواهد، ويقصدون به توحيد الألوهية التي دعت إليه الرسل، والنوع الثاني توحيد الخاصة وهو الذي يثبت بالحقائق، والنوع الثالث توحيد خاصة الخاصة وهو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه لقدره، وضلالهم – والعياذ بالله – واضح للعيان، فهل يتصور أن يكون توحيدهم أكمل من توحيد الأنبياء والرسل هذا التوحيد الذي دلت عليه الدلائل والبراهين، وظهوره وجلاؤه، وشهادة الفطر والعقول به من أعظم الأدلة على أنه أعظم مراتب التوحيد، ونحن نعلم أن الدين قد كمل وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الرسالات قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) [المائدة:3] فلماذا لم يبين ذلك لأمته عليه الصلاة والسلام وكيف لنا أن نعلم ذلك إن لم يعلمنا إياه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان ضلال هؤلاء مبسوط في مواضعه من كتب السلف وليس هذا مجاله. انظر مدارج السالكين (3/485) وما بعدها.

(10)   انظر ص12 وما بعدها.

(11)   انظر ص31-32.

(12)   انظر تفسير الفخر الرازي ج13/23.

(13)   عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة القرشي المخزومي كان كأبيه من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أسلم عام الفتح وجاهد في سبيل الله في قتال المرتدين في زمن أبي بكر رضي الله عنهما، مات شهيداً بأجنادين، وقيل يوم اليرموك سنة 15هـ وقيل سنة 13(انظر الإصابة 4/258) (وانظر تهذيب التهذيب 7/230) (وانظر الأعلام 4/244-245).

(14)   عبدالله بن خطل رجل من بني تميم بن غالب، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان مسلماً، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً وبعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه .. فأمره بأمر فلم يعمله فقتله، ثم ارتد مشركاً وكان له قيناتان تهجوان النبي صلى الله عليه وسلم (انظر السيرة 4/74) (وانظر فتح الباري 7-604).

(15)   مقيس بن صبابة بن حزن بن يسار الكناني القرشي: شاعر، اشتهر في الجاهلية، كانت إقامته بمكة، وهو ممن حرم على نفسه الخمر في الجاهلية. شهد بدر مشركاً .. وأسلم أخ له اسمه هشام، فقتله رجل من الأنصار خطأ، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدية، فقبضها. ثم ترقب قاتل أخيه حتى ظفر به وقتله، وارتد ولحق بقريش، وقال شعراً في ذلك، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فقتله نميلة بن عبدالله الليثي يوم فتح مكة، وقيل: رآه المسلمون بين الصفا والمروة فقتلوه بأسيافهم" (الأعلام للزركلي 7/283) وانظر السيرة  (4/75).

(16)   عبدالله بن سعد بن أبي السرح القرشي العامري، من بني  عامر بن لؤي من قريش، فاتح أفريقية، وفارس بني عامر من أبطال الصحابة، أسلم قبل فتح مكة، وهو من أهلها، وكان من كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، مات بعسقلان فجأة وهو قائم يصلي (سنة 38هـ) وهو أخو عثمان بن عفان من الرضاع، (الأعلام (4/88-89) وانظر السيرة (4/72-73).

(17)   سعيد بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبدالله المخزومي، أسلم قبل فتح مكة، مات بالكوفة وقيل قتل يوم الحرة، (الإصابة 3/95).

(18)   رواه النسائي كتاب تحريم الدم، باب: الحكم في المرتد، حديث رقم: 4067 (7/15-106)، أبو داود في كتاب الجهاد، باب: قتل الأسير ولا يُعرض عليه الإسلام، رقم: 2683 (2/65-66) عن سعد بن أبي وقاص مختصر وقال الهيثمي: "رواه أبو يعلى والبزار.. ورجالهما ثقات. ا.هـ، مجمع الزوائد (6/169) وروى بأطول منه البيهقي في الدلائل (5/98)، وانظر صحيح سنن النسائي للألباني (3/852-853).