قال تعالى: ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا)([1]) .

وقال تعالى : إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)                                                                                    

العبودية في اللغة تعني: «الخضوع والذل والتعبيد والتذليل، يقال: طريق معبد والتعبيد أيضاً الاستعباد وهو اتخاذ الشخص عبداً» ([2]) .

أما في الشرع فنوعان:

الأولى: العبودية العامة الشاملة لكل ما خلق الله في السموات والأرض، ويشمل بني آدم إنسهم وجنهم، كافرهم ومؤمنهم، وهي عبودية القهر والخضوع والملك والتخير، وهي وصف لازم لجميع الأحياء، فالخلق كلهم عبيد ربوبية الله تعالى، لقوله تعالى: .

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا { 88 } لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا { 89 } تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا { 90 } أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا { 91 } وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا { 92 } إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا { 93 } لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا { 94 } وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا { 95 } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا { 96 } فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا { 97 } وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا { 98 } سورة مريم آية 88 - 98 وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا

 

 

 

 

وقولـه تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴿٨٣﴾


 

[3]) . والمراد بالاستسلام في هذه الآية على قول عامة السلف أنه «الخضوع والذل لا مجرد تصريف الرب لهم» ([4]) .

ويدل على ذلك قولـه تعالى: ([5])وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ.

وقولـه تعالى:( لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)

وقولـه تعالى: ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون  ([6]) .

الثانية: عبودية خاصة، وتعني الطاعة والمحبة والاستعانة والانقياد... وجميع لوازم تحقيق الألوهية.

وهذا النوع ليس وصفاً لازماً، بل قد يتخلف بسبب الجهل والهوى والغي.

وهي تأتي بلفظ مطلق ومقيد، أما الأولى فتأتي مطلقة ([7]) .

ومن أمثلتها:

قولـه تعالى:.(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)

وقولـه تعالى: (عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا )

وقولـه تعالى: (يعباد لا خوف عليكم اليو ولاتحزنون)

وقولـه تعالى(فبشر عباد(17)الذين يستمعون القول فيتبعون احسنة)

وقولـه تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم من سلطان )، الاستثناء في الآية استثناء منقطع ([8]) ، والمراد بالسلطان في الآية: إنه لا يتسلط على قلوبهم.

وقيل: لا يلقيهم في ذنب لا توبة منه.

وقيل: المراد الحجة فلا حجة له فيما يدعوهم إليه من الشرك ([9]) .

وعلى العموم فهؤلاء العباد محفوظون بحفظ الله تعالى لهم، وحراسته وتأييده وإن نال الشيطان منهم شيئاً، فهو كما ينال اللص من الغافل سرعان ما ينفلت ويهرب.

قال مجاهد – رحمه الله – في تفسير هذه الآية:

«قال عبادي الذين قضيت لهم بالجنة ليس لك عليهم أن يذنبوا ذنباً إلا أغفر لهم»([10]) .

وأهل هذه العبودية هم أهل الإحسان وهو أعلى مراتب الدين، وهم المذكورون في قولـه تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلما(63)

أي: «يمشون بسكينة ووقار من غير تكبر ولا تماوت، وهي مشية رسول الله × »([11]) .

وهم الذين لهم الأمن المطلق المذكور في هذه الآية:

 

(الذين امنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون ).

وقولـه تعالى: (يعباد لاخوف عليكم اليوم ولاأنتم تحزنون) (68)

وهذا النوع هو المراد في هذا الفصل، وهو ينقسم إلى قسمين:

الأولى: عبودية تامة، وهي عبودية الرسل – عليهم صلوات الله وسلامه – كما وصفهم تعالى في قولـه.(وأذكر عبدنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أوللا الأيدي والابصر)

وقوله تعالى في نوح عليه السلام(انه كان عبدا شكور ).

وقولـه في شأن نبينا محمد × : (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثلة)

وقولـه تعالى:سبحان الذي أسرى بعبده ليلآمن المسجد الحرام الى المسجد الاقصا)

وهذه لا يشاركهم فيها غيرهم ([12]) .

الثانية: عبودية ناقصة يتخللها النقص والمعصية والزلة، وهي تشمل عموم المؤمنين على اختلاف في مراتبها ([13]) ، فمنهم السابقون المقربون، ومنهم أصحاب اليمين، وهم الذين قاموا بـ«أداء الواجبات، وترك المحرمات، مع ارتكاب المباحات، وبعض المكروهات، وترك بعض المستحبات» ([14]) .

«وأما مرتبة المقربين: فالقيام بالواجبات والمندوبات، وترك المحرمات والمكروهات، زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم، متورعين عما يخافون ضرره، وخاصتهم قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات بالنية»([15]) ، ولهم درجات متفاوته لا يعلمها إلا الله.

والشيطان معهم في حال لا يقدر عليهم، بل قد أضنونه وقهروه، كما في الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه –: (إن المؤمن لينضي([16]) شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر) ([17]) .

ولتحقيق كمال العبودية لا بد من توفر ركنين عظيمين هما:

الأول: تمام المحبة لله تعالى، فهي «قوت القلوب، وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات... وهي روح الإيمان والأعمال... التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه» ([18]) .

قال ابن القيم – رحمه الله – :

«فلو بطلت مسالة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان ولتعطلت منازل السير إلى الله فإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل...بل هي حقيقة الإخلاص, بل هي نفس الإسلام.. فمن لا محبة لـه لا إسلام لـه البتة بل هي حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، فإن (الإله) هو الذي يألهه العباد حباً وذلاً وخوفاً ورجاء وتعظيماً وطاعة له بمعنى مألوه، وهو الذي تألهه القلوب, أي تحبه وتذل له وأصل (التأله) التعبد. والتعبد آخر مراتب الحب. يقال: عبّده الحب وتيّمه: إذا ملكه وذللـه لمحبوبه»([19]). أ. هـ

«وثمرتها إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر منه ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله»([20]) .

الثاني: كمال الذل لـه سبحانه وتعالى والخضوع مهما خالف الأمر هواه ومراده كما قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجربينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلمموا تسليما 065)

وهذا الذل والخضوع يتحققان بمشاهدة نعم الله تعالى وآلائه فيستوجب الشكر، ثم مطالعة عيوب النفس، وقلة العمل على ما فيه من النقص والسهو ([21]) .

وللعبودية الحقة شرطان لا بد من توافرهما:

الأول: المتابعة، أي موافقة الشرع، قال تعالى: (ومن يتبع غير الاسلم دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخسرين (85)

الثاني: الإخلاص بأن يكون العمل خالصاً لا يراد به سوى وجه الله.

قال تعالى:(.(الذي خلق الموت والحيوة ليبلوكم أيكم أحسن عملآ)

قال الفضيل بن عياض – رحمه الله – : «العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة» ([22]) ، ثم قرأ قولـه تعالى:  (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملآصلحا ولايشرك بعبادة ربه أحد(85)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية تعليقاً على قول الفضيل:

«وهذا الذي ذكره الفضيل مما اتفق عليه أئمة المشايخ، كما قال أبو سليمان الداراني إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين الكتاب والسنة» ([23]) .

وأعمال العبادة ثلاثة أنواع:

- عبادات القلب، كالمحبة والإخلاص واليقين والتوكل والإنابة والخشية.

- عبادات الجوارح، كالصلاة والصيام والزكاة والحج...

- عبادات اللسان، كتلاوة القرآن والذكر، والاستغفار، والدعاء...

وهي تقوم على ثلاثة أصول عظيمة:

الأول: المحبة

ولا بد من أن تكون خالصة، متضمنة محبة ما يحب الله، وتقديم ذلك على كل محبة، ومحبة كل ما يحب الله، وبغض ما يعاديه، وهي عبودية الموالاة منه والمعاداة، كما في الصحيح عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يجب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) ([24]) .

ومن أبرز علاماتها:

- الاتباع والاقتداء للرسول صلى الله عليه وسلم :

(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )

- الجهاد في سبيله، قال تعالى:

(قل إن كان أباؤكم وأبنائكم وأخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم واموال أقترفتوموهم وتجرة تخشون كسادها ومسكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسولة وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمرة )

وهو ذروة سنام العبودية وأعلاها واجلها ([25]) .

الثاني: الخوف ([26]) ، وضده الأمن من مكر الله، وغايته أن يكون خوفه من الله تعالى أعظم خوف فلا يخاف سواه، قال تعالى: (فلاتخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين )

، ولا يكون العبد مسلماً إلا به.

قال السعدي – رحمه الله – : «فإن كان الخوف والخشية خوف تأله وتعبد وتقرب بذلك الخوف إلى من يخافه، وكان يدعو إلى طاعة باطنة، وخوف سري يزجر عن معصية من يخافه كان تعلقه بالله من أعظم واجبات الإيمان، وتعلقه بغير الله من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله
لأنه أشرك في هذه العبادة التي هي من أعظم واجبات القلب غير الله مع الله»
([27]) أ. هـ.

وينبغي ألا يصل به هذا الخوف إلى اليأس والقنوط من رحمة الله([28]).

قال ابن القيم – رحمه الله – سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – يقول: «حد الخوف ما حجزك عن معاصي الله، فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه»([29]) أ.هـ.

الثالث: الرجاء وضده اليأس من روح الله والقنوط من رحمته.

وهذه الثلاثة الأصول «هي قطب رحى  العبودية، وعليها دارت رحى الأعمال»([30]) .

ويدل عليها جميعاً، قولـه تعالى(أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابة) .

والخوف والرجاء هما جناحان للعبد يسيران به في طريق الاستقامة، فإن انفرد بأحدهما دون الآخر هلك ([31]) .

فإذا حاز العبد هذه الأصول الثلاثة جعل الشيطان يفر من طريقه، ولا يسلك فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غيره، يقول × : (والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك) ([32]) .

(وتصارع الشيطان مع عمر – رضي الله عنه – فصرعه) ([33]) .

وهذه الأحاديث تبين فضل عمر ومكانته، وخوف الشيطان وفراره منه، لكنها لا تقتضي العصمة ([34]) .

ومن أعظم مقامات العبودية التوكل، وهو من الأسباب العظيمة في دفع مكايد الشيطان، قال تعالى: : (إن عبادي ليس لك عليهم سلطن وكفى بربك وكيلآ) ، وهو «من أجل مقامات العارفين... وكلما علا مقام العبد كانت حاجاته إلى التوكل أعظم وأشد، وأنه على قدر إيمان العبد يكون توكله» ([35]) ، وقولـه تعالى (انه ليس له سلطن على الذين أمنوا وعلى ربهم يتوكلون )

والتوكل هو صدق اعتماد القلب على الله في جلب المنفعة ودفع المضرة ([36]) ، والتوكل على الله نوعان:

الأول: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.

الثاني: توكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه  من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه ([37]) .

والمؤمن لـه مع التوكل حالتان:

الأولى: توكل اضطرار وإلجاء حين تنقطع الأسباب وينغلق الفرج وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة.

الثاني: توكل اختيار مع وجود الأسباب فهنا لـه مع الأسباب ثلاثة أحوال:

الأول: أن يكون السبب مشروعاً ومندوباً إليه فهنا يذم تاركه كمن يرجو حصول الولد دون أن ينكح.

الثاني: أن يكون السبب محرماً، ففي هذه الحالة لا تحل مباشرته ولا تعافيه، ويبقى التوكل هو السبب، وهو من أقوى الأسباب على الإطلاق.

الثالث: أن يكون السبب مباحاً فينظر في السبب حينئذ فإن كان يضعف التوكل أم لا.

فإن أضعفه وكان سبباً في تفرق الهمَّ وتشتته فيتعين تركه، بل يكون من الأولى تركه، أما إن لم يضعفه فمباشرته أولى.

وهذا كله عبودية لله تعالى لأن التوكل عبودية القلب، ومباشرة الأسباب عبودية الجوارج، والتوكل لا يكون إلا مع العبادة فلا يأتي منفرداً ([38]) .

ومن أعظم مقامات العبودية الصلاة والخشوع فيها والطمأنينة، وفي الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله × قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم،
كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)
([39]) .

قال ابن حجر – رحمه الله – : «ويستفاد منه أن الصلاة أعلى العبادات، لأنه عنها وقع السؤال، والجواب فيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة، والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين... ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما والاهتمام بهما» أ. هـ  ([40]) .

وفي الحديث: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فيدركه فيكبه في نار جهنم) ([41]) .

«والذمة هنا الضامن، وقيل: الأمان» ([42]) .

فإذا سمع الشيطان الأذان أدبر فاراً ولـه ضراط حتى لا يسمع الأذان، كما جاء في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله × : (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان ولـه ضراط حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي الأذان أقبل، فإذا ثوِّب بها أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: أذكر كذا وكذا، ما لم يكن
يذكر! حتى يظل الرجل إن يدري كم صلَّى، فإذا لم يدر أحدكم كم
صلَّى – ثلاثاً أو أربعاً – فليسجد سجدتين وهو جالس)
([43]) .

ومعنى قولـه: (لـه ضراط) صوت الريح، وهو على حقيقته، حيث قد ثبت أنه يأكل ويشرب فلا يمتنع عليه خروج الريح وفعله هذا، إما أنه يفعله متعمداً كيلا يسمع صوت الأذان، وإما إنه يفعله ذلك استخفافاً بالأذان كفعل السفهاء.

وقولـه إذا ثوِّب: أي أقيمت الصلاة.

ومعنى الحديث إن هذا العدو يقبل عند إقبال العبد على صلاته يحول بينه وبين قلبه، بما يخطر لـه من أمور غائبة عن ذاكرته يذكره  بها ويمنيه ويذكره بحاجاته حتى يشغله عن الخشوع والإخلاص فيها وليصرفه عنها ويقطعها عليه ([44]) .

فإذا عجز عن القطع والانصراف عنها اختلس منها خلسة، كما صح ذلك عن المصطفى × عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: سألت رسول الله × عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: (هو اختلاس، يختلسه الشيطان من صلاة العبد) ([45]) .

والاختلاس «من خلست الشيء واختلسته إذا سلبته» ([46]) .

ولهذا شرعت مراغمته إذا وسوس للعبد في صلاته، ومعنى المراغمة: من رغم أي جعل أنفه في الرغام وهو التراب والطين ([47]) ، والمراغمة المغاضبة ([48]) ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلَّى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس) ([49]) .

وهذه السجدتان ترغيم للشيطان، كما في حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلَّى ثلاثاً أم أربعاً، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلَّى خمساً شفعن لـه صلاته، وإن كان صلَّى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان)([50]) .

والمراغمة هي: «محاربة العدو لله وبالله» ([51]) ، فكلما زادت الحرب من هذا العدو تعينت على أولياء الله لبس لامة الحرب ودفع هذا العدو بكل ما أوتي العبد من القوة، وهذه المراغمة هي من أحب العبوديات إلى الله ([52]) .

قال ابن القيم – رحمه الله – :

«فمن تعبد لله بمراغمة عدوِّه، فقد أخذ من الصِّد يقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه، وموالاته ومعاداته لعدوِّه، يكون نصيبه من هذه المراغمة، ولأجل هذه المراغمة حمد التبختر بين الصَّفيَّن، والخيلاء والتبختر عند صدقة السِّرِّ، حيث لا يراه إلا الله، لما في ذلك من إرغام العدوِّ، وبذل محبوبه من نفسه وماله لله عزَّ وجلَّ، وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس، ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأول» ([53]) .

ومن مقامات العبودية الصدقة وأعظمها صدقة السر، في الصحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه ([54]) أو قلوصه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم) ([55]) .

وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله × : (الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها)([56]).

وهي من وسائل دفع الشيطان عن العبد، كما في قوله × :

(يا معشر التجار إن الشيطان والإثم يحضران البيع فشوبوا بيعكم بالصَّدقة) ([57]) ، وفي الحديث إشارة إلى حضور الشيطان مجامع الناس في الأسواق ونصب رايته – كما سيأتي إن شاء الله – لإيقاع العباد في الإثم والغش والتزوير، فحثهم النبي صلى الله عليه وسلم على خلط البيع بالصدقة حتى يكون كفارة لما يحدث من اللغو والكذب، وفي هذا إرغام للشيطان وقهر لـه([58]).

ومن مقامات العبودية الصيام، وفي الحديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).

قال شيخ الإسلام – رحمه الله – :

«ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب، وإذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشياطين، ولهذا قال: فضيقوا مجاريه بالجوع... ([59]) وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي بها تفتح أبواب الجنة، وإلى ترك المنكرات التي بها تفتح أبواب النار، وصفدت الشياطين فضعفت قوتهم وعملهم... ولم يقل أنهم قتلوا ولا ماتوا، بل قال: صفدت، والمصفد من الشياطين قد يؤذي لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه، فمن كان صومه كاملاً دفع الشيطان دفعاً لا يدفعه دفع الصوم الناقص» ([60]) .

وفي الحديث عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله × يقول: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر، يذهب مغلة الصدر) ، قال: قلت: وما مغلة الصدر، قال: (رجس الشيطان) ([61]) .

فعَلة الصدر: حقده أو غيظه أو نفاقه، وهي من وساوس الشيطان وإغوائه، والصيام يقمع الشيطان ويسد مجاريه ([62]) .

 



([1])   سورة الحجر، الآية: 42.

([2])   مختار الصحاح (1/172).

([3])   سورة آل عمران، الآية: 83.

([4])   مجموع الفتاوى، لابن تيمية (14/30)، وانظر: تفسير ابن كثير (2/66)، وانظر: مصائب الإنسان من مكايد الشيطان، لابن مفلح ص 59-60.

([5])   سورة الرعد، الآية: 15.

([6])   سورة النحل، الآية: 49.

([7])   انظر: مدارج السالكين (1/105-106)، أعلام الموقعين (2/176)، تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/51)، الوابل الصيب، ص 6-7.

([8])   انظر: البرهان في علوم القرآن، للزركشي، وتفسير ابن كثير (2/198)، (2/552).

([9])   انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، (10/28)، أضواء البيان، للشنقيطي، (3/325).

([10])   ذكره السيوطي في الدر المنثور، (5/313)، وقال: «أخرجه ابن أبي حاتم».

([11])   زاد المعاد (1/168).

([12])   انظر: الوابل الصيب، لابن القيم، ص 6، القول المفيد، لابن عثيمين (1/28-29).

([13])   انظر: الوابل الصيب، ص 6.

([14])   مدارج السالكين (1/107).

([15])   المرجع السابق (1/108).

([16])   «لينضي: أي يهزله, ويجعله نِضْوا. والنِضْو: الدابة التي أهتزلتها الأسفار وأذهبت لحمها» النهاية في غريب الحديث (5/72).

([17])   رواه الإمام أحمد في المسند (2/380)، وابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان، رقم: 20، ص 41-42، ورواه البيهقي في شعب الإيمان، رقم: 5447، (10/387-388)، عن عبدالله بن مسعود بلفظ: (إن الشيطان المؤمن يلقى الشيطان الكافر، فيرى شيطان المؤمن شاحباً أغبر مهزولاً، فيقل لـه شيطان الكافر: مالك؟ ويحك قد هلكت، فيقول الشيطان،: لا والله ما أصل على شيء، إنه إذا طعم ذكر اسم الله، وإذا شرب ذكر اسم الله، وإذا نام ذكر اسم الله، فيقول الآخر: لكني آكل من طعامه، وأشرب من شرابه، وأنام على فراشه، فهذا شاحم وهذا مهزول)، ورواه الطبراني موقوفاً عن ابن مسعود في الكبير، رقم: 8782، (9/156)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/22): «رواه الطبراني موقوفاً ورجاله رجال الصحيح»أ. هـ.

([18])   مدراج السالكين، لابن القيم (1/6-7).

([19])  المرجع السابق (3/26).

([20])   فتح الباري، لابن حجر (1/60).

([21])   انظر: الوابل الصيب، لابن القيم، ص 11، مدارج السالكين (1/105-106) و (3/30).

([22])   ذكره ابن القيم في مدارج السالكين (2/89) و (1/83-84)، وذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/333)، (7/495)، (10/318)، وغير ذلك في مواضع متعددة من فتاويه.

([23])   مجموع الفتاوى (11/585).

([24])   رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب (حلاوة الإيمان)، رقم: 16، (1/14). ومسلم في كتاب الإيمان، رقم: 45.

([25])   انظر: شفاء العليل، لابن القيم، ص 222.

([26])   الخوف أنواع وقد سبق تفصيلها وبيان أنواعها، انظر ص

([27])   القول السديد، ص 98.

([28])   الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (7/227)، تفسير ابن كثير (4/48).

([29])   مدارج السالكين (2/394).

([30])   مدارج السالكين (3/133)، وانظر: شرح الطحاوية، لابن أبي العز، ص 588، والمدخل لدراسة العقيدة الإسلامية، د/ إبراهيم البريكان، ص 114-121، ط. عام 1413هـ/ 1992م، دار السنة.

([31])   انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (7/227)، شرح الطحاوية، ص 588، ط. المكتب الإسلامي.

([32])   رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب (صفة إبليس وجنوده)، رقم: 3294، (6/339)، ومسلم، كتاب الفضائل، (15/164) شرح النووي.

([33])   رواه ابن أبي الدينا في مكايد الشيطان، رقم: 63، ص 85، وأبو نعيم في دلائل النبوة، ص 131، والدارمي في السنن، (2/448).

([34])   انظر: فتح الباري (7/47).

([35])   بدائع الفوائد، لابن القيم، (2/465).

([36])   انظر: الفوائد، ص 113، تحقيق: أحمد عرموش، ومجموع فتاوى العقيدة، للشيخ محمد صالح العثيمين، (6/54-55).

([37])   الفوائد، ص 112، وانظر التحفة العراقية ص13، مطبوع ضمن الرسائل المنيرية، الجزء الثاني.

([38])   انظر: الفوائد، لابن القيم، ص 10-18، مجموع الفتاوى، (8/527)، وفتح القدير للشوكاني، (3/242)، التحفة العرافية ضمن الرسائل المنيرية، (2/13)، الشرك في القديم والحديث، (2/1109).

([39])   رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب (فضل صلاة العصر)، رقم: 530،
(1/203-204)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم: 632، (     ).

([40])   فتح الباري، (2/37).

([41])   رواه مسلم في كتاب الصلاة، رقم: 657، (1/454)، والترمذي في سننه، رقم: 222.

([42])   شرح النووي على صحيح مسلم، (5/158).

([43])   رواه البخاري، كتاب السهو، باب (إذا لم يدر كم صلى – ثلاثاً أو أربعاً – سجد سجدتين وهو جالس)، رقم: 1231، (3/133-134)، الفتح ومسلم بنحوه، في كتاب المساجد، رقم:     ، (5/57).

([44])   انظر: فتح الباري، (3/134-135)، شرح مسلم للنووي، (4/92).

([45])   سبق تخريجه.

([46])   النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير (2/61).

([47])   انظر: لسان العرب (12/247).

([48])   مختار الصحاح (1/105)، وانظر: النهاية (2/184).

([49])   رواه البخاري، في كتاب السهو، باب (السهو في الفرض والتطوع)، رقم: 1175، (2/413).

([50])   رواه مسلم، في كتاب المساجد (5/60)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب «السهو»، باب (إتمام المصلي على ما ذكر إذا شك )، رقم: 585، (1/205)، وفي السنن كتاب السهو، باب (إتمام المصلي على ما ذكر إذا شك)، رقم: 1238، (3/27)، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب (إذا شك في الثنتين والثلاث من قال يلقي الشك)، رقم: 1024، (1/269).

([51])   تهذيب مدارج السالكين (1/225).

([52])   المرجع السابق (1/226).

([53])   المرجع السابق، الجزء والصفحة نفسها.

([54])   فلوة: «المهر الصغير، وقيل: هو الفطيم من أولاد ذوات الحوافر» النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3/474) وانظر: المصباح المنير (2/481)، لسان العرب (15/162)، مختار الصحاح للرازي ص214 .

([55])   رواه مسلم في كتاب الزكاة، رقم: 1014، (2/702).

([56])   رواه مسلم في كتاب الطهارة، رقم: 223، (1/203)، والترمذي ، رقم: 3517، (5/535).

([57])   رواه الترمذي في كتاب البيوع، باب (ما جاء في التجارة وتسمية النبي × )، رقم: 1225، (3/341)، وقال: هذا حديث صحيح . أ.هـ، ورواه الطبراني في الكبير رقم: 913، (18/357).

([58])   انظر: عارضة الأحوذي، لابن العربي، (5/210)، ط. عام 1415هـ/ 1994م، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، وتحفة الأحوذي (4/334)، ومعالم السنن، للخطابي (3/46).

([59])   قال الألباني في هذه الزيادة: «لا أصل لها في شيء من كتب السنة التي وقفت عليها، وإنما هي في كتاب الإحياء للغزالي فقط» ا.هـ، سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/79) ط. الثانية 1408هـ/1988م، مكتبة المعارف، الرياض.

([60])   مجموع الفتاوى (25/246)، وانظر مدارج السالكين لابن القيم (1/458-459).

([61])   رواه الإمام أحمد (5/154)، وأبو داود الطيالسي في مسنده،حديث رقم: 482، 65، والنسائي في المحبّبي برقم: 2408 بدون ذكر الزيادة فيآخره وابن حبان في صحيحه بمعناه وبأطول منه رقم: 6557 (14/498) عن أعرابي من أصحاب رسول الله ×.

والبيهقي في السنن الكبرى عن أبي هريرة رضي الله عنه بدون الزيادة في آخره رقم: 8220 (4/293)، وعبدالرزاق في مصنفه عن الحارث رقم: 7872 (4/298)، وأبو يعلى في مسنده عن علي رضي الله عنه رقم: 442 (1/346).

([62])   انظر: فيض القدير، للمناوي، (4/211).