ومن وسائل التحصين ضد الشيطان غضّ البصر، حيث إن النظر من سهام إبليس التي يرمي بها فلا تخطئ، وهو منفذ القلب، وباب كل شر إذا أطلق في الحرام.

قال القرطبي – رحمه الله – : «البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، بسبب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه وغضه عن جميع المحرمات» أ. هـ ([1]) .

وفي الحديث عن حذيفة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه) ([2]) .

«فإن السهم شأنه أن يسري في القلب، يعمل فيه عمل السُّم الذي يسقاه المسموم، فإن بادر استفراغه وإلا قتل ولا بد» ([3]) .

لذا حذر الإسلام من إطلاق النظر في الحرام، كما في حديث علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – : (لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) ([4]) .

قال ابن كثير – رحمه الله – : «ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة، ولا بغير شهوة أصلاً، واحتج كثير منهم بما رواه أبو داود والترمذي عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة قالت: بينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب، فقال: صلى الله عليه وسلم : (احتجبا منه)، فقلت: يا رسول الله اليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه) ([5]) ...» أ.هـ ([6]) .

ورجحه النووي ([7]) .

وجعل النظر زنى العين، كما في الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه) ([8]) .

وقد شرع الإسلام شرائع وقائية لمنع فتنة البصر ومنها:

1- الاستئذان لئلا يقع البصر على ما حرم الله النظر إليه، عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: اطلع رجل من حُجْر في حُجَر النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه فقال: (لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، وإنما جعل الاستئذان من أجل البصر) ([9]) .

2- تحريم الدخول على النساء، حتى المحارم بدون استئذان خشية أن يرى عورتهن، عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال يا رسول الله استأذن على أمي قال: نعم قال الرجل إني معها في البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن عليها فقال الرجل إني خادمها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن عليها أتحب أن تراها عريانة قال: لا، قال: فاستأذن عليها([10]).

3- حرم الخلوة بالأجنبية، وفي الحديث: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) ([11]) .

4- شرع الحجاب على المرأة، قال تعالى((وقل للمؤمنت يغضضن من أبصرهن ))

حيث جعله حصناً حصيناً للمرأة تدفع به عن نفسها النظرات المسعورة، وتزهق به أرواح ذئاب البشر، الذين لا هم لهم إلا تتبع النساء والنظر إليهن، ليهنؤوا بلقمة سائغة في مستنقع الرذيلة، بعد أن دعوا إلى تعرية الأجساد، تمزيق الحجاب واختلاط الرجال بالنساء، هناك تضيع الفضيلة، وتطمس الحقيقة الإيمانية، وتختلط الأنساب، وتهدر الحقوق.

ومن هنا فإن: غض البصر يورث ثلاث فوائد جليلة القدر:

الأولى: حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب مما تركه لله، فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

الثانية: إن غض البصر يورث نور القلب والفراسة، قال تعالى عن قوم لوط:

((لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون "72"))

، فالتعلق بالصدر يوجب فساد العقل وعمي البصيرة وسكر القلب، والله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله فغض بصره عما حرم يعوضه الله عليه من جنسه بما هو خير منه، فيطلق بصيرته ويفتح عليه باب العلم والمعرفة.

الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل الله لـه سلطان النصرة مع سلطان الحجة، وفي الأثر: «الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله، ولهذا يوجد في المتتبع لهواه من الذل والمهانة ما جعله الله لمن عصاه» ([12]) .



([1])   الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (12/223).

([2])   رواه الطبراني في المعجم الكبير، رقم: 10362، (10/173)، والحاكم في المستدرك، رقم: 7875، (4/349)، وقال: «صحيح الإسناد»ا.هـ، ولم يوافقه الذهبي وابن الشهاب في مسنده، رقم: 292، (1/195)، ط. الثانية، 1407هـ/ 1986م، مؤسسة الرسالة، بيروت.

([3])   روضة المحبين، لابن القيم، ص 95.

([4])   رواه الحاكم في المستدرك، رقم: 2788، (2/212)، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه»أ. هـ، وقال الذهبي في التلخيص «على شرط مسلم»ا.هـ، وأبو دواد في السنن، كتاب: «الأدب»، باب: (ما يؤمر به من غض البصر)، رقم: 2148، (2/246)، والترمذي في كتاب: «  »، باب: (ما جاء في نظرة المفاجأة)ن رقم: 2776، (5/101)، ط. دار إحياء التراث، والدارمي في السنن، رقم: 2709، (2/386).

([5])  رواه الترمذي في كتاب: «  »، باب: (ما جاء في احتجاب النساء من الرجال)، رقم: 2778، (5/102)، دار إحياء التراث، وقال: «هذا حديث حسن صحيح»، أ. هـ، وأبو داود في السنن، في كتاب: «التفسير» باب:(قولـه عز وجل: ¼ ÔSTÎWè YŒHTWÞYÚ`ëSÙ<ÕPYÖ WÝ`µSµ<çÅWTÿ óÝYÚ QWÝYåX£HTW±`TŠVK… » ) رقم: 4111، (4/63)، ط. دار الفكر، وابن حبان في صحيحه رقم: 5576 (12/389) والبيهقي في السنن الكبرى رقم: 13303 (7/91)، وحسنه النووي، انظر: شرح مسلم (6/184)، قال ابن حجر – رحمه الله - : «أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها وإسناده قوي وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن بنهان وليست بعلة قادحة فإن من يعرفه الزهري ويصفه، بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد لا ترد روايته» ا.هـ، فتح الباري (9/337)، وانظر (1/550).

([6])  تفسير ابن كثير (3/283)، دار الفكر.

([7])   شرح النووي على صحيح مسلم (6/184).

([8])   رواه مسلم في كتاب: «القدر»، رقم: 2657، (4/2047).

([9])   رواه البخاري في كتاب: «الاستئذان»، باب: (الاستئذان من أجل البصر)، رقم: 5887، (5/2304)، ومسلم في كتاب: «الآداب»، رقم: 2156، (3/1698).

([10])   رواه مالك في الموطأ رقم: 1729 (2/963) مرسلاً، والبيهقي في السنن الكبرى رقم: 13336 (7/97)، وابن جرير في تفسيره (18/112)، وابن أبي شيبة في مصنفه عن زيد بن أسلم رقم: 17600 (4/42)، قال ابن عبدالبر: «وهو مرسل صحيح مجتمع على صحة معناه ولا يجوز عند أهل العلم أن يرى الرجل أمه ولا ابنته ولا أخته ولا ذات محرم منه عريانة لأن المرأة عورة فيما عدا وجهها وكفيها»ا.هـ التمهيد (16/229).

([11])   سبق تخريجه.

([12])   مجموع الفتاوى، باختصار وتصرف يسير (21/252-259).