ومن وسائل التحصين ضد الشيطان الرجيم حفظ الجوارح؛ لأن كثرة الخطايا والسيئات سبب لتمكن الشيطان وسيطرته على العبد،
قال تعالى:
(لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)

والجوارح هي «جمع جارحة وهي الأعضاء التي يكتسب بها الإنسان» ([1]) ، ومنها اليدين والرجلين والسمع والبصر واللسان، وسميت جوارح «لأنهن .. يَجْرحْن الخير والشر أي يكسبنه» ([2]) وأعظمها وأهمها وأشدها خطراً اللسان، «فهو يفتح للعبد أبواباً من الشر كلها مداخل للشيطان، فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها، وكم من حرب جرتها كلمة واحدة» ([3]) .

ولذا جاءت الأحاديث الكثيرة مؤكدة على الحث على حفظ اللسان من اللغو والحرام وفحش القول، بل التنزه عن الخوض فيما لا يعني وجعل ذلك من كمال الإيمان.

قال ابن القيم – رحمه الله – :

«وأكثر المعاصي إنما يولدها فضول الكلام والنظر، وهما أوسع مداخل الشيطان، فإن جارحيتهما لا يملان ولا يسأمان بخلاف شهوة البطن، فإنه إذا امتلأ لم يبق فيه إرادة للطعام، وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام، فجنايتهما متسعة الأطراف، كثيرة الشعب، عظيمة الآفات» أ.هـ ([4]) .

وآفاته كثيرة وأعظمها القول على الله بلا علم، وتحريم الحلال وتحليل الحرام، إلى غير ذلك من آفاته من الغيبة والنميمة والمراء والجدال، والقذف والسب واللعن وسب الأموات والسخرية والاستهزاء والكذب والخصومة والتقعر وشهادة الزور ([5]) .قال تعالى (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

وفي الحديث عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أبغض الرجال عند الله الألد الخصم) ([6]) .

ومعناه: «شديد الخصومة، مأخوذ من لديدي الوادي، وهما جانباه، لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر، وأما الخصم فهو الحاذق بالخصومة والمذموم هو الخصومة بالباطل» ([7]) .

وفي حفظه عن السباب والشتم عن عياض بن حمار قال: قلت يا رسول الله، رجل من قومي يشتمني وهو دوني عليَّ بأس أن أنتصر منه؟ قال: (المستابان شيطانان يتهاذيان ويتكاذبان) ([8]) .

وفي الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) ([9]) .

ومن حفظ اللسان، حفظه من رمي المؤمن بالكفر.

عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه) ([10]) .

ومن حفظ اللسان عن إفشاء السر.

ومن ذلك الحديث ما يكون بين الرجل وامرأته، فعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها) ([11]) .

ومن حفظ اللسان صونه عن الكلام الباطل والشعر ([12]) .

قال تعالى:. هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ﴿٢٢١﴾تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴿٢٢٢﴾يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴿٢٢٣﴾وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴿٢٢٤﴾أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴿٢٢٥﴾وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ

 

وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج ([13]) إذ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خذوا الشيطان أو امسكوا الشيطان؛ لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً) ([14]) .

قال النووي – رحمه الله – :

«المراد أن يكون الشعر غالباً عليه مستولياً عليه بحيث يشغله عن القرآن وغيره من العلوم وذكر الله تعالى، وهذا مذموم من أي شعر كان، فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية هو الغالب عليه فلا يضر حفظ اليسير من الشعر مع هذا، لأن جوفه ليس ممتلئاً شعراً» ([15]) .

ومن حفظ اللسان صونه عن النجوى، قال تعالى: (إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ )

، وقد سبق الكلام فيها .

ومن حفظ الجوارح حفظ البصر، وقد سبق الحديث عنه.

ومن حفظ الجوارح حفظ البطن، وحفظ البطن يشمل حفظه من أكل الربا وأكل مال اليتيم والرشوة، وأكل كل ما حرم الشرع بيعه كثمن الكلب وكسب البغي والخمر والمخدرات وترك الشبهات، وعدم التوسع في المباحات من كثرة المطاعم والمشارب.

جاء في الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) ([16]) .

وقال تعالى:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٩٠﴾إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴿٩١﴾

وفي الحديث (لن يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يشرب الخمر، فإذا شربها خرق الله عنه ستره، وكان الشيطان وليَّه وسمعه وبصره ورجله يسوقه إلى كل شر، ويصرفه عن كل خير) ([17]) .

ومعنى الحديث أنه «إذا شربها صار عقله مع الشيطان كالأسير في يد كافر يستعمله في رعاية الخنازير وحمل الصليب وغير ذلك، فإذا أدمن شربها صار الشيطان من جنده ومن أعوانه وأتباعه» ([18]) .

والله طيب ولا يقبل إلا طيباً، كما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا  

، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك) ([19]) .

ومن حفظ الجوارح حفظ الفرج، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿٥﴾إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿٦﴾فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿٧﴾

وفي الحديث عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم : (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن لـه الجنة) ([20]) .

وحفظ الفرج يشمل: حفظه عن اللواط، والزنا، والسحاق، ونكاح اليد، وإتيان المرأة في دبرها، وإتيان الحائض، وإتيان البهيمة، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) ([21]) .

ومن حفظ الجوارح حفظ اليد ويشمل: حفظها عما يلي:

قتل المسلم، وقتل النفس، والإشارة على المسلم بالسلاح ولبس الذهب، ومصافحة النساء، واللعب بالنرد والبلوت والعزف على الآلات المؤسيقية، وضرب المسلم وكتابة البدع المخالفة للسنة وغير ذلك ([22]) .

وفي الحديث الصحيح عن عبدالله بن عمرو – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) ([23]) .

وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يده، فيقع في حفرة من النار).

وعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: (من لعب بالنردشير ([24]) فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه) ([25]) .

ومن هذا الحديث وغيره ذهب أكثر العلماء إلى تحريم اللعب بالنرد وقاسوه على القمار والشطرنج ([26]) ، ومعنى صبغ يده في لحم خنزير ودمه أي «في حال أكله منهما وهو تشبيه لتحريمه بتحريم أكلهما» ([27]) .

ومن حفظ الجوارح، حفظ السمع عن سماع ما يغضب الله، واستماع الكفر والبدعة، واستماع الأسرار، وسماع أصوات النساء عند خشية وقوع الفتنة ([28]) .

ومن آكد ما ينبغي صون السمع عنه، سماع الغناء وآلات اللهو المحرمة، في أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – :

«ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، قال الله تعالى(  وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ )

 ( ([29]) ، قال ابن عباس وابن عمر – رضي الله عنهم – وغيرهما من السلف (التصدية): التصفيق باليد، (والمكاء): مثل الصفير، فكان المشركون يتخذون هذا عبادة، وأما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك... ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط لا بكف ولا بدف» أ. هـ ([30]) .



([1])   المطلع على أبواب المقنع (1/118)، وانظر لسان العرب (2/423)، المصباح المنير (1/95)، غريب الحديث للحربي (1/244).

([2])   لسان العرب (2/423).

([3])   التفسير القيم، ص 627.

([4])   المرجع السابق، نفس الصفحة.

([5])   انظر: مدارج السالكين (1/114-115)، وقاية الإنسان من الجن والشيطان، وحيد عبدالسلام بالي، ص 300 وما بعدها .

([6])   رواه البخاري، في كتاب: «المظالم»، باب: (قول الله تعالى: ¼ WéSåWè QSŸVÖKV… Yz†f±Y<Ö@… »)، رقم: 2325، (2/867)، ومسلم في كتاب: «العلم»، رقم: 2668، (4/2054).

([7])   صحيح مسلم بشرح النووي (16/219)،وانظر: فتح الباري(5/106)،(8/188)، وسبل السلام، للصنعاني (4/196)، مجموع الفتاوى، لابن تيمية (14/445).

([8])   رواه الإمام أحمد في المسند (4/162)، وابن حبان في صحيحه، رقم: 5697، (7/492).

([9])   رواه البخاري في كتاب: «الرقاق»، باب:(حفظ اللسان)، رقم: 6112، (5/2377).

([10])   رواه البخاري في كتاب: «الأدب»، باب: (من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال)، رقم: 5752، (5/2263)، ومسلم في كتاب: «الإيمان»، رقم: 60، (1/79).

([11])   رواه مسلم في كتاب: «النكاح»، رقم: 1437، (4/1060).

([12])   لا يدخل في ذلك من كان شعره لخدمة ونصرة الإسلام، أو لم يشتمل على كذب وإثم وباطل، قال شيخ الإسلام: «فظاهر القرآن ليس فيه أن الشعراء تتنزل عليهم الشياطين، إلا إذا كان أحدهم كذاباً أثيماً، فالكذاب في قوله وخبره، والأثيم في فعله وأمره» أ. هـ، مجموع الفتاوى (2/51)، ودليله الاستثناء في آخر الآية: (الاالذين آمنوا وعملوا الصالحات... » ، سورة الشعراء: 227.

([13])   العَرْجْ: قرية في الطائف في أول تهامة تبعد عن المدينة ثمانية وسبعون ميلاً، انظر: معجم البلدان (4/111).

([14])   روه مسلم في كتاب: «الشعر»، رقم: 2259، (4/1769)، والبخاري عن أبي هريرة وابن عمر – رضي الله عنهما – في كتاب: «الأدب»، باب: (ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى تصده عن ذكر الله والعلم والقرآن)، رقم: 5802، (5/2279).

([15])   صحيح مسلم بشرح النووي (15/14-15)،وانظر: فتح الباري (10/538،550)، ط دار المعرفة، المفهم (5/528)، الجامع لأحكام القرآن (13/150).

([16])   رواه البخاري في كتاب: «التفسير»، باب: (قول الله تعالى:)، رقم: 2615، (3/1017)، ومسلم في كتاب: «الإيمان»، رقم: 89، (1/92).

([17])   رواه الطبراني في الكبير، رقم: 21، (19/14-15)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصحيح، رقم: 4782، ص 690، ط. المكتب الإسلامي، ط. الثالثة، 1410هـ/ 1990م.

([18])   فيض القدير، للمناوي (5/302).

([19])   رواه مسلم في كتاب: «الزكاة»، رقم: 1015، (2/703).

([20])   رواه البخاري في كتاب: «الرقاق»، باب: (حفظ اللسان وقول النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، رقم: 6109، (5/2376).

([21])   سبق تخريجه.

([22])   انظر: مدارج السالكين (1/120-121)، وقاية الإنسان من الجن والشيطان، لوحيد عبدالسلام بالي، ص 359-362.

([23])   رواه البخاري في كتاب: «الإيمان»، رقم: 10، (1/13) واللفظ لـه، ومسلم في كتاب: «الإيمان»، رقم: 40، (1/65).

([24])   النردشير: هو النرد: «وهي قطع ملونة تكون من خشب البقس ومن عظم الفيل»، التمهيد، لابن عبدالبر (13/175).

([25])   رواه مسلم في كتاب: «الشعر»، رقم: 2260، (4/1770).

([26])   انظر: شرح مسلم للنووي (15/16)، الكافي في فقه ابن حنبل، لابن قدامة المقدسي (4/524)، والمغني (10/171)، ومجموع الفتاوى (32/222).

([27])   شرح مسلم للنووي (15/16).

([28])   انظر: مدارج السالكين (1/117).

([29])   سورة الأنفال، الآية: 35.

([30])   مجموع الفتاوى (11/295).