وأما الأدلة من السنة فقد تواترت عن النبي × في إثبات الرؤية، وقد نص على التواتر عدد من الأئمة ([1]) ، ابن قتيبة، والآجري، والبيهقي، والنووي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم.

ومنها ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن أناساً في زمن النبي × قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال النبي × : (نعم هل تضارُّون في رؤية الشمس بالظهيرة، ضوء ليس فيها سحاب)، قالوا: لا، قال: (وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر، ضوء ليس فيها سحاب)، قالوا: لا، قال النبي ×: (ما تضارون في رؤية الله عز وجل يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما...)([2]) .

والأدلة كثيرة ليس هذا مجال سردها ([3]) .

وأما استدلال المبتدعة بقولـه تعالى: فهي دليل عليهم لا لهم من وجوه:(لن تراني ولكن آنظر إلى الجبل فإن آستقرمكانه فسوفتراني)

الأول: إن السائل للرؤية – موسى عليه السلام – وهو من الرسل ومحال أن يسأله ما لا يجوز، ولو سأل ما لا يجوز لجاء بيان ذلك، كما جاء في شأن نوح – عليه السلام – في قولـه تعالى: إني أعظك أن تكون من الجاهلين)

الثاني: إن الله تعالى قال: لن تراني)

ولم يقل لست بمرئي، أو لا تجوز رؤيتي.

الثالث: إن الجبل مع قوته وصلابته لم يحتمل ذلك، فكيف بقوى البشر الضعيفة؟! وهذا في الدنيا، وأما في الآخرة فينشئهم الله نشأة أخرى ليست كحالهم في الدنيا.

الرابع: إن الله تعالى علق رؤيته باستقرار الجبل مع إمكان ذلك، ولم يعلقه بمحال.

الخامس: إن الله تعالى تجلى للجبل وهو جماد لا يعقل، فكيف يمنع من ذلك أولياءه وأهل كرامته.

السادس: إن الله تعالى كلم موسى وناجاه، ومن جاز لـه ذلك، جازت له الرؤية من باب أولى.

السابع: إن ليست لتأبيد النفي، فقد جاءت مطلقة في الآية، ولو جاءت مقيدة بالتأبيد لم تقتضه، كما في قولـه تعالى: (ولن يتمنوهأبدآ)([4]) ، مع قولـه تعالى:ونادوايامالك ليقض علينا ربك)[5]) ، كما إن كون (لن) للتأبيد مردود بكثير من الآيات، كما في قولـه تعالى: (لن تتبعونا)[6]) ، وقولـه:لن يؤمن من قومك إلامن قد ءامن)[7]) ، فهذه كلها جائزة عقلاً، لولا إن الخبر منع من وقوعها، وقوله تعالى: (فقل لن تخرجوا معي أبدآ) المراد به في الدنيا دون الآخرة، كما هو ظاهر من سياق الآية.

الثامن: إن البشر يعجزون عن رؤية ملك من الملائكة في الدنيا إلا من أيده الله من الأنبياء، فكيف برؤية الله تعالى ([8]) .

وأما قوله تعالى: (لاتدركه الأبصاروهويدرك الأبصار)

فهي دليل عليهم أيضاً، لأن الإدراك هوالإحاطة، وليس كل مرئي مدرك، وكل مدرك مرئي، فالله تعالى يرى ولا يدرك، كما هو حصيلة هاتين المقدمتين، كما نرى السماء ولا ندركها ولله المثل الأعلى.

كما أن الآية سيقت في مجال المدح، فدل على تضمنها صفة كمال، لأن العدم ليس مدحاً، وليس هو من صفات الله تعالى، فلا يوصف الله تعالى بأنه لا يرى، لأن هذا سلب للكمال، والله تعالى له صفات الكمال المطلق، وهذا الحق الذي اتفق عليه السلف.

كما إن تمام الآية: دليل عليهم إذ يقول تعالى: (وهويدرك الابصار)

دليل على إدراكه الأبصار، والمعتزلة ينفون ذلك ([9]) .

وأما إبطال أدلتهم العقلية فأقول:

إن نفيهم للرؤية بناء على أن إثباتها يؤدي إلى كون الرب في جهة، ولو كان في جهة لكان جسماً، والأجسام مثماثلة، فإثبات الجسم يقتضي الحدوث، فكل جسم حادث على حد زعمهم ([10]) .

والجهة التي ينفونها من الألفاظ المجملة التي تحتاج إلى تفصيل، فإن أريد بالجهة أمراً وجودياً، أي بمعنى أن الله تعالى داخل في خلقه، أو تحويه بعض مخلوقاته، فلا شك في بطلان هذا القول.

وإن أريد بالجهة أمراً عدمياً وهو ما فوق العالم، وأنه تعالى بائن من خلقه فوق سماواته، مستوٍ على عرشه فهذا بلا شك معنى حق ([11]) .

والله جل وعلا لـه صفات تليق بجلاله وعظمته، لا تشبه صفات المخلوقين، فلا يجوز قياس صفاته تعالى بصفاتهم، كما لا يجوز قياس ذاته بذواتهم.

والخلاف مع هؤلاء خلاف منهج، إذ إنهم في اعتمادهم على العقل وتقديمه على السمع، جانبوا النصوص، وأدخلوا في دين الله ما ليس فيه، وأعرضوا عن الحق ففساد مذهبهم في مسألة ما يعود إلى فساد المنهج العقلي الذي سلكوه.

ويقال لهم أيضاً أليس الذي قال: (سترون ربكم عياناً) ، هو الذي أنزل عليه القرآن، وبلغه لأمته؟ فهل يظن ظان أن هؤلاء المبتدعة علموا من القرآن، وفهموا منه أشد وأوضح مما فهمه نبي الأمة – عليه صلوات الله وسلامه – ؟!!

وأما قول الأشاعرة بإثبات الرؤية، ونفي الجهة، فهذا ممتنع في بداهة العقول، والرسول × قد شبه رؤية الله تعالى يوم القيامة برؤية الشمس والقمر، وهما من أشد الأشياء وضوحاً، وهم يرونها فوقهم عياناً، فدل ذلك على إثبات رؤية الله تعالى عياناً مواجهة، وقولهم هذا لضعفه، واستحالته، كان سبباً لتطاول منكري الرؤية عليهم وإظهار تناقضهم([12]) .

ونفيهم العلو والاستواء هو الذي دفعهم لسلوك هذا الرأي الباطل الذي جمعوا فيه بين الحق والباطل، والذي علم فساده بالضرورة، مع اتفاق أهل السنة عليه وشهادة الفطر السليمة به ([13]) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – :

«... كل ما يدل عليه الكتاب والسنة، فإنه موافق لصريح المعقول، وإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، ولكن كثيراً من الناس يغلطون، إما في هذا، وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده كان عارفاً بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول...» ([14]) .

ومن هنا يتبين أن وظيفة العقل في باب الأسماء والصفات:

1-   فهم معانيها.

2-   التفكر والتدبر لآثارها ومقتضياتها.

3-   استعمال الأقيسة العقلية الصحيحة اللائقة بالله تعالى وهي:

أ- إثبات الكمال لله ونفي النقص.

ب- قياس الأولى ([15]) .

جـ- نفي الصفة إثبات لكمال ضدها.

وقياس الأولى معناه كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – بقوله:

«أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي تستوي أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها...

ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواءً كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: (ولله المثل الأعلى)، مثل أن نعلم أن كل كمال للممكن أو المحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه، فالواجب القديم أولى به، وكل كمال لا نقص فيه بوجوه من الوجوه، ثبت نوعه للمخلوق والمربوب المدبر، فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، فهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والمحدثات فإنه يجب نفيه عن الرب تبارك وتعالى بطريق الأولى» أ. هـ ([16]) .

قال تعالى: للذين لايؤمنون بالأخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم)

وقولـه تعالى: (وهوالذي يبدؤاالخلق ثم يعيده وهوأهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهوالعزيز الحكيم)

وقولـه تعالى: (ليس كمثله شيء وهوالسميع البصير)

وكلها تدل على قياس الأولى، وإثبات الكمال لله تعالى ونفي النقص.

كذلك نفي الصفة إثبات لكمال ضدها. .(ولايظللم ربك أحد)

 

، لكمال عدلـه، فينفي ضدها صفات النقص عنه متضمناً إثبات الكمال وقولـه: (قال تعالى:(ومايعزب عن لربك من مثقال ذرة في الأرض ولافي السماء)

» ([17]) ، فينفي العزوب هنا لإثبات كمال علمه تعالى  ([18]) .

ومن الغايات في ذكر هذه الصفات السلبية – والله أعلم.

1- بيان عموم الكمال، أي كماله تعالى، كما في قولـه تعالى: ((ليس كمثله شيء)

 

2- نفي ادعاء المشركين والمكذبين، كما في قولـه تعالى: ¼ (أن دعواللرحمان ولدا*91*وماينبغي أن يتخذولدآ)

3- دفع توهم النقص فيما يتعلق بأمر معين ([19]) ، كما في قولـه تعالى: ([20]) .وما خلقنا السماء والأرض ومابينهما لاعبين)

وقولـه: ((ولقد خلقنا السموات والأرض ومابينهما في ستة أيام ومامسنا من لغوب)

7- التفويض:

ومن الشبه التي كادهم بها إبليس شبهة التفويض ([21]) .

ومعناه: «صرف اللفظ عن ظاهره، مع عدم التعرض لبيان المعنى المراد منه، بل يترك ويفوض علمه إلى الله تعالى – بأن يقول: الله أعلم بمراده» ([22]) .

ومعنى هذا القول إن أسماء الله تعالى وصفاته ليس لها معنى، أو لها معنى لا يعلمه إلا الله، ولم يعلمه رسوله ولا جبريل – عليهما السلام – ولا الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم – ([23]) .

قال – رحمه الله – :

«ومنهم من يقول بل تُجرى على ظاهرها وهؤلاء يشتركون في القول بأن الرسول لم يبين المراد بالنصوص التي يجعلونها مشكلة أو متشابهة، ولهذا يجعل كل فريق المشكل من نصوصه غير ما يجعله الفريق الآخر مشكلاً، ثم منهم من يقول لم يعلم معانيها أيضاً، ومنهم من يقول علمها ولم يبينها بل أحال في بيانها على الأدلة العقلية»أ.هـ([24]) .

ولهذا سماهم ابن القيم – رحمه الله – أصحاب التجهيل، فقال: «والصنف الثالث: أصحاب التجهيل: الذين قالوا: نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا ندري ما أراد الله ورسوله منها، ولكن نقرأها ألفاظاً لا معاني لها، ونعلم أن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله... فلو ورد علينا منها ما ورد نعتقد فيه تمثيلاً ولا تشبيهاً ولم نعرف معناه، وننكر على من تأوله ونكل علمه إلى الله...»أ. هـ ([25]) .

يقول أبو منصور الماتريدي ([26]) – رحمه الله – في صفة الاستواء:

«فيجب القول بالرحمن على العرش استوى على ما جاء به التنزيل، وثبت ذلك في العقل، ثم لا نقطع تأويله على شيء لاحتماله غيره مما ذكرنا، واحتماله ما لم يبلغنا مما يعلم أنه غير محتمل شبه الخلق»أ. هـ ([27]) .

ومن خلال تأمل هذا القول يظهر لك أنهم متناقضون أشد التناقض فمن قائل منهم أن نصوص الصفات تجري على ظواهرها على القول: إن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله.

قال شيخ الإسلام – رحمه الله –:

«ومنهم من يقول: بل تُجرى على ظاهرها، وتحمل على ظاهرها، ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله، فيتناقضون حيث أثبتوا لها تأويلاً يخالف ظاهرها، وقالوا: مع هذا إنها تحمل على ظاهرها...»أ. هـ ([28]) .

ولفساد هذا القول لزم منه لوازم باطلة منها:

التعطيل المحض إذ لا فرق بين هذا القول وقول المعتزلة من حيث الأثر فكلاهما نفى معاني صفات الله وما دلت عليه.

ومنها: الطعن في القرآن الذي وصفه الله تعالى بأنه نور وبرهان وهدى وموعظة وكتاب وفرقان، فهم يقولون: إنه احتوى على ألفاظ لا معنى لها، وأنه سبب الحيرة والضلال.

ومنها: رد صحيح السنة ومتواترها ([29]) .

يقول ابن القيم – رحمه الله – مبيناً المنهج الحق في الرد على النفاة والمشبهة: «... المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يترك تدبرها ومعرفتها فيكون ذلك مشابهة للذين إذا ذكروا بآيات ربهم خروا عليها صماً وعمياناً، ولا يقال هي ألفاظ لا تعقل معانيها ولا يعرف المراد منها فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني...»أ. هـ ([30]) .

ومن هنا فهؤلاء المفوضة يمكن أن يرد عليهم من وجهين:

الأول: أن هذا القول لم يقل به أحد من سلف الأمة ولا الأئمة، فمضمون هذا القول إن أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا فهم معناه، وكان يمكن القول: إن خطاب رسول الله × خالٍ من الفائدة وليس له معنى صحيحاً، وهذا لم ينقل عن أحد من السلف.

الثاني: إن كان نفيهم مبنياً على أن العقل لا يدل على إثبات الصفات فيقال لهم: السمع دليل مستقل بنفسه، فيجب الاعتصام به في المضايق، فلماذا تنفون المدلول أو تجعلون الصفات كلها عائدة إلى الإرادة مع أن النصوص لم تفرق ([31]) .

قال شيخ الإسلام – رحمه الله –:

«فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون: كلاماً لا يعقلون معناه... ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة لا يعلم أحد معناها...» .

إلى أن قال: «فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد»أ. هـ ([32]) .

8- نفي الصفات بناء على أن إثباتها يستلزم منه تعدد القدماء:

فقالوا لو أثبتنا صفة العلم مثلاً لله تعالى: «فإنه لا يخلو أن يكون الله العالم بنفسه، ويكون العلم من صفاته في ذاته لا صفته لغيره، فقد جعل مع الله سواه، ولو كان مع الله سواه، لكان أحدهما قديماً والآخر محدثاً، فيجب على من قال بذلك أن يبين أيهما المحدث لصاحبه، فإن قال: إن العلم أحدث الخالق كفر، وإن قال: إن الله أحدث العلم، فقد زعم أن الله كان غير عالم حتى أحدث العلم، ومتى لم يكن العلم فضده لا شك ثابت، وهو الجهل...» ([33]) .

وقالوا:

«لو كان العلم نفس الذات، والقدرة نفس الذات، لكان العلم نفس القدرة؛ فكان المفهوم من العلم والقدرة واحداً، وأنه ضروري البطلان...

واحتج المعتزلة بوجوه:

الأول: أن إثبات القدماء كفر، وبه كفرت النصارى.

الثاني: عالميته وقادريته واجبة فلا تحتاج إلى الغير.

الثالث: صفته صفة كمال، فيلزم أن يكون ناقصاً لذاته، مستكملاً بغيره وهو باطل» ([34]) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – :

«فقال نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة ونحوهم: (الواحد) هو الذي لا صفة لـه ولا قدرة، ويعبرون عن هذا المعنى بعبارات، فيقول من يريد هذا المعنى من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله: إن واجب الوجود واحد من كل وجه ليس فيه أجزاء ولا أجزاءكم أو يقال: ليس فيه كثرة حد ولا كثرة كم... ومقصود هذه العبارات أنه ليس لله صفة ولا له قدرة.

وكذلك تقول الجهمية من المعتزلة وغيرهم: إن القديم واحد ليس معه في القدم غيره، ولو قامت به الصفات لكان معه غيره، وأنه ليس بجسم؛ إذ الجسم مركب مؤلف منقسم، وهذا تعدد ينافي التوحيد، أو يقولون أيضاً: إن ثبوت الصفات تقتضي كثرة وعدداً في ذاته وذلك خلاف التوحيد، ويسمون أنفسهم (الموحدين)» ([35]) .

وقال أيضاً – رحمه الله – :

«... إنهم يزعمون أن إثبات الصفات ينافي التوحيد ويزعمون أنهم هم الموحدون، فإن من أثبت الصفات فهو مشبه ليس بموحد، وأنه يثبت تعدد القدماء لا يجعل القديم واحداً فقط... ويجعلون نفي الصفات داخلاً في مسمى التوحيد...» ([36]) .

ويقال لهم هذه النخلة التي أمامكم بجزعها وليفها وسعفها... أليست يطلق عليها اسم النخلة بما فيها، فكذلك الله تعالى ولله المثل الأعلى لا نقول إن صفاته منفصلة عن ذاته.

وألم يقل سبحانه تعالى في كتابه عن الوليد بن المغيرة:

(ذرني ومن خلقت وحيدآ) فسماه وحيداً مع أن لـه صفات وأعراضاً وحواس، ولله المثل الأعلى ([37]) .

ومما يدل على فساد قولهم إنه لو صح لجاز أن يقال يا علم الله اغفر لي وارحمني([38]) .

ويقال لهم أيضاً: إن من قال الله متكلم قائل آمر ناه لا قول له ولا كلام ولا أمر ولا نهي لـه، فهو خارج عن ملة الإسلام وهم يقرون بذلك فكذلك من قال إن الله تعالى عالم ولا علم لـه، وكذلك يقال في الإرادة وسائر الصفات ([39]) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في الرد عليهم:

«ولفظ (الواجب. والقديم) يراد به الإله الخالق سبحانه، الواجب الوجود القديم([40]) ، فهذا ليس إلا واحداً، ويراد به صفاته الأزلية، وهي قديمة واجبة بتقدم الموصوف، ووجوبه لم تجب أن تكون مماثلة لـه، ولا تكون إلهاً، كما أن صفة النبي ليست بنبي، وصفة الإنسان والحيوان ليست بإنسان ولا حيوان» ([41]) .

كما أن أقوالهم تلك تؤدي إلى إثبات رب لا يتصور وجوده إلا في الأذهان، فليس له ذات ولا صفة بل هو أشبه بالمعدوم ([42]) .

وخلاصة القول إن إبليس قد زين لهم شبهات كادهم بها حتى سلخهم من دينهم، فجعلهم يعتمدون على أقوال الفلاسفة، وعباراتهم ومصطلحاتهم فقاسوا: بناء عليها صفات الله تعالى وأسمائه فأدخلوا في دين الله ما ليس منه، ولهذا جاءوا بعبارات موهمة وألفاظ غريبة لم تكن معهودة، ولا معروفة عند سلف الأمة ([43]) الذين تلقوا المعين الصافي من هادي البشرية، ونبي الرحمة محمد عليه صلوات الله وسلامه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – :

«فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقاً وتكلفاً فقد
(آستهوى الشيطان في الأرض حيران)[44]) فصار يستدل بزعمه... على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه...» أ. هـ ([45]) .

 

 



([1])   انظر: الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية، لابن قتيبة، ص 238، ضمن عقائد السلف، التصديق بالنظر، للآجري، ص 10، والشريعة، للآجري، ص 276، الاعتقاد، للبيهقي، ص 66، شرح مسلم للنووي (3/15)، مجموع فتاوى ابن تيمية (6/421)، حادي الأرواح، لابن القيم، ص 277، 319، تفسير ابن كثير (7/171)، فتح الباري، لابن حجر (3/443)، شرح الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، ص 170، نظم المتناثر من الحديث المتواتر، رقم: 307، ص 250-251، لأبي الفيض جعفر الحسني الأدريسي، ط. الأولى، 1403هـ، دار الكتب العلمية، بيروت،  الفقه الأكبر مع شرحه، ص 76، لوامع الأنوار (2/243)، معارج القبول (1/333)، مشكاة المصابيح (الهامش) (3/1577).

([2])   رواه البخاري في كتاب: «التفسير»، باب: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة)، رقم: 4305)، (4/1671-1672)، ورواه في كتاب: «التوحيد»، باب: (قول الله تعالى)، رقم: 7001، (6/2076-2077)، بأطول منه ورواه مسلم في كتاب: «الإيمان»، باب: (معرفة طريق الرؤية) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – بأطول منه، رقم: 183 (1/167).

([3])   انظر: الرؤية، للدارقطني، ص 91، وما بعدها، وحادي الأرواح، ص 277 وما بعدها.

وهل هذه الرؤية خاصة بالمؤمنين أم أن أهل الموقف يرونه تعالى مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم، قال ابن تيمية – رحمه الله – : بأنه خاص بالمؤمنين لا يشاركهم فيه غيرهم، وقال ابن خزيمة: يراه المنافقون في الموقف.

وقيل: يراه المؤمن والكافر والمنافق، ثم يحتجب عنهم أن الكافر يراه في رؤية تعريف وتعذيب لا رؤية فرح وسرور، ثم يحتجب عنهم، انظر: مجموع الفتاوى (6/486)، وحادي الأرواح، لابن القيم، ص 269، والتوحيد، لابن خزيمة (2/420)، وشرح الطحاوية، ص 174.

([4])   سورة البقرة، الآية: 95.

([5])   سورة الزخرف، الآية: 77.

([6])   سورة الفتح، الآية: 15.

([7])   سورة التوبة، الآية: 83.

([8])   انظر فيما سبق: الاعتقاد، للبيهقي، ص 57، حادي الأرواح، 267-296، شرح العقيدة الطحاوية، من ص 166 إلى ص 168، الانتصاف، لأحمد منير الإسكندراني، مطبوع في حاشية تفسير الكشاف (2/154).

([9])   انظر: التصديق بالنظر، للآجري، ص 10، مجموع فتاوى ابن تيمية (6/289)، التدمرية، ص 59، حادى الأرواح، لابن القيم، ص 273، شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، ص 168-169، فتح الباري، لابن حجر (13/435-436).

([10])   انظر: منهاج السنة، لابن تيمية (3/343)، التدمرية، لابن تيمية 119-120.

([11])   انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (5/262-2939، منهاج السنة (2/348، 558-559).

([12])   انظر: تلبيس الجهمية (1/359-360)، (2/88-89)، منهاج السنة (3/341)، شرح الطحاوية، ص 211، ط. المكتب الإسلامي.

([13])   انظر: منهاج السنة (3/342-343)، مجموع الفتاوى (16/84-89)، وقد عقد ابن القيم – رحمه الله – فصلاً في حادي الأرواح بعنوان: «وعيد منكري الرؤية» ساق الآيات والآحاديث ثم عقبها بقوله: «فأجمع بين قوله: فإنكم سترون ربكم» وقوله: لمن ظن أنه غير ملاقيه، فإني أنساك كما نسيتني، وإجماع أهل اللغة على أن اللقاء المعاينة بالأبصار، ويحصل لك العلم بأن منكري الرؤية أحق بهذا الوعيد...»أ. هـ، حادي الأرواح، ص 318-319.

([14])   مجموع الفتاوى، لابن تيمية (12/80-81).

([15])   انظر: كتاب مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات، لأحمد بن عبدالرحمن القاضي، ص 473، ط. دار العاصمة، الطبعة الأولى، 1416هـ.

([16])   مجموع الفتاوى (3/297)، وانظر: (12/350)، وشرح العقيدة الطحاوية، ص 122، والصواعق المرسلة (1/64).

([17])   سورة يونس، الآية: 61.

([18])   انظر: بدائع الفوائد، لابن القيم (1/159-161)، تلخيص الحموية، ص 54، ضمن رسائل العقيدة، وانظر: القواعد المثلى، لابن عثيمين، ص 25-28.

([19])   القواعد المثلى، لابن عثيمين، ص 28، (بتصرف واختصار يسير).

([20])   سورة الأنبياء، الآية: 16.

([21])   نسب بعض المؤلفين هذا المذهب لأهل السنة... وهو قول باطل، انظر: بيان ذلك والرد عليه في كتاب: «مذهب أهل التفويض»، لأحمد القاضي، ص 152 وما بعدها.

([22])   النظام الفريد بتحقيق جوهرة التوحيد، لمحمد محيي الدين عبدالحميد، حاشية على إتحاف المريد بجوهرة التوحيد، لعبد السلام، اللقاني، ص 128، نقلاً من المرجع السابق.

([23])   انظر: مجموع الفتاوى (5/34)، (3/66 وما بعدها)، (5/35 وما بعدها).

([24])   شرح الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، ص 596، ط. المكتب الإسلامي، وانظر: درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية (1/204).

([25])   الصواعق المرسلة، (2/422)، ط. الأولى 1408هـ، دار العاصمة، الرياض، تحقيق: د. علي بن محمد الدخيل الله.

([26])   أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي، وهو من أئمة علماء الكلام نسبته إلى ما تريد (محلة بسمرقند)، توفي سنة 333هـ، عاصر أبا الحسن الأشعري، من آرائه: إن معرفة الله تعالى مدركة بالعقل، وإن أفعال الله تعالى أرادها لحكمة اختارها، وإن كلام الله هو المعنى القائم بذاته وأنها قديمة،ولـه آراء أخرى، ولـه مؤلفات منها التوحيد، التأويلات وغيرها، انظر: الأعلام، للزركلي (7/19)، جامع الفرق والمذاهب الإسلامية، تأليف: أمير المهنا وعلى خريس،  ص 170-171، ط. الأولى، 1992م، نشر المركز الثقافي العربي، بيروت. كتاب أبي منصور الماتريدي حياته وآراؤه، موقف ابن تيمية من الأشاعرة، د. عبدالرحمن المحمود، ط. الأولى 1415هـ/ 1995م، مكتبة الرشد، الرياض.

([27])   التوحيد، للماتريدي، ص 74، وقد سبق الرد على من أنكر الاستواء.

([28])   درء تعارض العقل والنقل، (1/15-16)، وانظر: التدمرية، ص 113-114، الصواعق المرسلة (3/921)، (423-424).

([29])   انظر: مذهب أهل التفويض، لأحمد القاضي، ص 505 وما بعدها.

([30])   الصواعق المرسلة، لابن القيم (1/229).

([31])   انظر: مجموع الفتاوى (5/294-300)، انظر: مشكل الحديث وبيانه، لابن فورك، ص 243-244، تحقيق وتعليق: د. عبدالمعطي أمين قلعجي، دار الوعي، حلب، ط. الأولى، 1402هـ.

([32])   درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية (1/204-205).

([33])   رسائل العدل والتوحيد (2/137-138)، وانظر في الرد عليهم: مجموع الفتاوى(12/231-234)، التدمرية، ص 117، والإبانة، لأبي الحسن الأشعري (2/144)، وتوضيح الكافية الشافية، ص 61، والأسماء والصفات، للشنقيطي، ص 96-98.

([34])   المواقف، للإبجي، ص 280.

([35])   بيان تلبيس الجهمية، لابن تيمية (1/465).

([36])   تلبيس الجهمية (1/463)، وانظر: الرد على الزنادقة والجهمية، للإمام أحمد، ص 104-106.

([37])   انظر: الرد على الزنادقة، للإمام أحمد بن حنبل.

([38])   انظر: الإبانة، لأبي الحسن الأشعري (2/144).

([39])   انظر: المرجع السابق نفس الجزء والصفحة.

([40])   هل القديم من أسماء الله؟! قال شارح الطحاوية – رحمه الله – : «وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى (القديم) وليس هو من الأسماء الحسنى، فإن القديم في لغة العرب: هو المتقدم على غيره، ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم... وأما إدخال القديم في أسماء الله تعالى، فهو مشهور عند أكثر الكلام، وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلق...» أ. هـ، شرح الطحاوية، لابن أبي العز، ص 59-60.

([41])   مجموع الفتاوى (12/231).

([42])   انظر: المرجع السابق (17/288)، وللاستزادة، انظر: الصفدية لابن تيمية (2/277)، مجموع الفتاوى (3/23-24)، (12/161 وما بعدها)، (17/168).

([43])   وقد أثر عن أبي عبدالله الرازي قوله – عند موته – : «ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت منها فائدة تساوى الفائدة التي وجدتها في القرآن لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله، ويمنع من التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية؛ فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته وبراءته عن الشركاء كما في القدم والأزلية والتدبير والفعالية فذاك هو الذي أقول به وألقى الله...إلخ»، طبقات الشافعية (5/37) .

([44])   سورة الأنعام، الآية: 71 .

([45])   مجموع الفتاوى (5/43).