إن الإيمان بالله جل وعلا ويشمل الإيمان بربوبيته وألوهيته وما يجب له من صفات وأسماء تليق بجلاله جل وعلا مما أخبر به في كتابه، أو ثبت من سنة نبيه محمد e وهذه هي أقسام التوحيد الثلاثة، التي تشمل القسم الخبري العلمي الاعتقادي وتشمل توحيد الربوبية والأسماء والصفات، والقسم الإنشائي الطلبي العلمي وهو توحيد الألوهية توحيد القصد، والإرادة، الذي دعت إليه الرسل، ومن أجله أنزلت الكتب، وأبى المشركون قبوله والاعتراف به ([1]) .

والرب في اللغة: "المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والقيم، والمنعم" ([2]) .

وقال ابن الأنباري ([3]) :

"والرب ينقسم على ثلاثة أقسام: يكون الرب المالك، ويكون الرب السيد المطاع، قال تعالى: (فيسقى ربه خمرا)[يوسف:41]، ويكون الرب المصلح، رب الشيء إذا أصلحه .. "ا.هـ ([4]) .

والله عز وجل هو المالك، المتصرف، الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبر، السيد، المطاع .. الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. له صفات الكمال المطلق، ولـه تصرف العبادة، وهو الإله الحق، الذي يحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون.

والإيمان بربوبية الله جل وعلا، مركوز في الفطرة لا ينكره إلا معاند مكابر، والاستدلال عليه يكون من قبيل اتنبيه وإيقاظ الفطر الغافلة وقد اعترف به المشركون، قال تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع يدبر الأمرفسيقولون الله فقل افلا تتقون)) يونس 3

      قوله تعالى     قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٨٤﴾    سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿٨٥﴾قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴿٨٦﴾سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿٨٧﴾قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٨٨﴾سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ ﴿٨٩

                                                  [المؤمنون:84-89].

وقوله تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴿٣٨﴾))[الزمر:38].

ومع اعترافهم به فلم يدخلهم في الإسلام، ولم ينجهم من عذاب الله وسخطه وذلك لعدم اعترافهم بلازمه،وصرفهم العبادة لغير الله.

والمتأمل في هذا الكون الهائل بأرضه وسمائه، الناظر في بره وبحره، أجرامه وكواكبه، يعلم يقيناً أنه لا يمكن أن يوجد هذا العالم إلا بموجد أوجده، حي قادر لا يعتريه الحدوث والتجدد وهو الرب جل وعلا. قال تعالى: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۚ قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴿١٠﴾ [إبراهيم:10].

وقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴿٣٥﴾أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَلْ لَا يُوقِنُونَ ﴿٣٦﴾ [الطور:35-36].

وقولـه تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿١٠١﴾ [يونس:101].

 

المبحث الأول: الاستدلال بالآيات الكونية على الربوبية

 

لقد اشتمل القرآن على كثير من آيات الله جل وعلا في الكون كما هو الغالب على السور المكية، وقد جعلت الحديث في هذا المبحث دائراً تحت المسائل التالية:

1-  خلق السماوات والأرض.

2-  تدبير الأمر.

3-  خلق الشمس والقمر.

4-  اختلاف الليل والنهار.

5-  ما خلق الله في السماوات والأرض.

6-  جريان الفلك في البحر.

7-  الرياح.

8-  الرزق.

9-  خلق السمع والبصر.

10-                 إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي.

11-                 بدء الخلق وإعادته.

وأستعين بالرب جل وعلا في بيانها وتوضيحها:

 

1- خلق السماوات والأرض

قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿٣﴾  [يونس:3].

وقولـه تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ  [يونس:31].

مما لا شك فيه أن خلق السماوات والأرض من أعظم الدلائل على ربوبية الله عز وجل فلو نظرنا إلى:

أ- السماء:

لرأينا هذا البناء الشامخ الذي ليس به خلل ولا فطور، قد رفعه الله تعالى بلا أعمدة، وزينة بالنجوم، وجعلها فيه كالمصابيح المضيئة.

قال ابن جرير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿١٦٤﴾

[البقرة:164] إن الله تعالى ذكره، ونبه عباده على الدلالة على وحدانيته، وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء بهذه الآية. ا.هـ ([5]) أي آية خلق السماوات والأرض.

ب- الأرض:

وهاهي الأرض آية أخرى، دلالة ثانية على إبداع البارئ جلا وعلا، وعلى ربوبيته فقد جعلها قراراً ومستقراً لجميع الكائنات، وسخرها للإنسان، ثم اقتضت حكمته تعالى أن يجعل الجبال لها أوتاداً، ولو لم يجعل عليهاالجبال الشامخات لم تكن مستقرة كما نشاهد، ولأصبحت تتكفأ تكفؤ السفينة، فلا يمكن أن يستقر عليها بنيان أو كائن.

وتأمل في خلق هذه الأرض من جوهر التراب، ولم تكن من الذهب أو الفضة أو الياقوت .. أو غير ذلك من الجواهر النفيسة، إذ لو كانت منها لفاتت مصالح الإنسان عليها وكذلك الحيوان ([6]) .

وتأمل ما أودعها الرب تعالى من الكنوز الثمينة التي ينتفع بها الخلق في أمور معاشهم، وأهم ذلك (البترول) الذي يتدفق من باطنها ملايين الأطنان.

وتأمل العيون التي تتفجر من باطنها، على نحو لا يعلمه إلا الله تعالى، ثم انظر إلى تلك الأراضي المتجاروة، ومع ذلك فبعضها يختلف عن بعض فمنها ما يصلح للنبات والمرعى، ومنها قيعان لا تصلح لشيء من ذلك ([7]) .

وفي سورة يونس – عليه السلام – يبين الرب تعالى، ويلفت أنظار العباد إلى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ولاشك أن ذلك من دلائل ربوبيته، وألوهيته وأنه الإله المستحق للعبادة، ولذلك قال تعالى: ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿٣﴾ [يونس:3].

ويقول أيضاً: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴿٦﴾ [يونس:6].

ويقول جل ذكره في سورة النحل [خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿٣﴾النحل:3].

ويقول تعالى: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۚ قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴿١٠﴾ [إبراهيم:10].

إلى غير ذلك من الآيات التي لوتتبعتها لطال المقام، وكلها تشير إلى عظيم خلق السماوات والأرض، وما خلق فيها الله تعالى من عظيم الآيات وبين المعجزات الدالة على ربوبيته.

 

2- تدبير الأمر:

قال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿٣١﴾

 [يونس:31].

إن تدبير الأمر في هذا العالم لمن آيات الله الباهرة. فمن الذي سخر الشمس أن تطلع صباحاً وتغرب مساءً؟! ومن الذي أجرى القمر في فلك معين لا يحيد عنه قيد أنملة؟! ومن الذي أجرى الأفلاك بما لا يعلم كنهه إلا خالقه؟! ومن الذي أحيا وأمات؟! وأوجد من العدم؟! وأغنى وأفقر؟! ومن الذي أنزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها؟! ومن الذي أخرج لنا من الأرض ثمرات مختلفاً ألوانها مع تساوي التربة والغذاء؟! من الذي يدبر أمر السماء والأرض ..؟! إنه بلا شك ولا ريب الله سبحانه وتعالى، وهو مع هذا لا يشغله شأن عن شأن، بل هو محيط بعلم كل شيء ليس معه شريك ولا ند.

قال تعالى اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴿٢﴾ [الرعد:2].

قال الإمام الشوكاني في تفسير قوله تعالى: (يدبر الأمر):

"قيل يبعث الأمر، وقيل ينزل الأمر، وقيل يأمر به ويمضيه، واشتقاقه من الدبر، والأمر الشأن، وهو أحوال ملكوت السماوات والأرض والعرش وسائر الخلق" ([8]) .

وإذا كان الرب جل وعلا هو مدبر جميع أمور الدنيا والمعاش فله الحق في تدبير أمور الآخرة، وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع، فلا أحد غيره يستحق أن يتفرد بتلك الأمور العظيمة.

 

3- خلق الشمس والقمر:

وهاهي آية خلق الشمس والقمر، آية أخرى، ودلالة عظيمة على ربوبية الله عز وجل، قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿٥﴾ [يونس:5].

ونستطيع أن نعدد بعض الآيات الباهرات في خلق الشمس والقمر لنرى عظمة الرب تعالى في خلق هذين النيرين.

فمن الآيات: طلوع الشمس وغروبها على نمط معين، وكذلك القمر بنظام دقيق، لا يتخلف ولا يعتريه اضطراب.

وتأمل ماذا سيحصل لو طال النهار ولم تغرب الشمس، أو العكس فلو حصل ذلك لأحرقت الشمس ما على الأرض من نبات، ولو حصل العكس لتجمد كل ما على الأرض ([9]) .

قال تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿٣٨﴾ [وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴿٣٩﴾لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴿٤٠﴾يس:38-40].

ومن الآيات ما احتوته الشمس في خلقها من الآيات الباهرات حيث "يبلغ قدر الشمس كما أثبته العلم الحديث حوالي (864000) ميل ويبلغ وزنها حوالي (ألفي بليون بليون طن) وكلها مكونة من الغازات الملتهبة الشديدة السخونة، وذراتها الغازية الملتهبة تتجول داخل الشمس بحرية مطلقة .. وتتحمل الشمس ما يقع عليها من هصر بسبب تفجير الطاقة النووية فوق ما يخطر بالبال، أو يتصوره العقل البشري. إن ذلك الطوفان الطاغي من تفجير النَّوى يرفع درجة حرارة الشمس إلى ما لا يقل عن (14 مليون درجة مئوية) وتسخن هذه الحرارة لا كرتنا الأرضية فحسب بل تسخن جميع المجموعة الشمسية" ([10]) .

ومن الآيات أيضاً ما يخزن من أشعة الشمس في النبات بواسطة ما يسمى (عملية التمثيل الغذائي) في النبات حيث يتم تصنيع الغذاء في الورقة الخضراء بواسطة أشعة الشمس، وبإيقادنا لهذه الأجزاء الشجرية تنطلق الطاقة المخزونة.

وقد تتحول هذه الطاقة إذا طمرت وتراكمت إلى فحم حجري، أو بترول ([11]) ، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴿٨٠﴾ ( [يس:80].

ومن الآيات أيضاً في خلق القمر تقدير منازله، فهو أقرب الأجرام إلى الأرض، وقطره (3478 ك.م)، وهو يدور حول الأرض ببطء، ولـه كل ليلة منزل، وعدد منازله ثمانية وعشرون منزلاً، ويمكن رؤيته في جميع المنازل عدا ليلة أو ليلتين فيحتجب فيها عن الأنظار ([12]) .

وفي هذا حكمة عظيمة بيّنها جل وعلا في قوله(لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ  [يونس:5].

وقوله تعالى: ([يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿١٨٩﴾البقرة:189].

4- اختلاف الليل والنهار:

إن في اختلاف الليل والنهار، وفي تعاقبهما لآية عظيمة لمن ألقى السمع وهو شهيد، ولهذا أكثر الله تعالى من ذكرها في القرآن العظيم، في آيات كثيرة، وبأساليب متنوعة.

قال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴿٦﴾

 [يونس:6].

ويقول تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿١٩٠﴾ [آل عمران:190].

وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴿٦٢﴾ ([الفرقان:62].

وقوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴿٢٣﴾ [الروم:23].

فتأمل كيف جعل الله سبحانه وتعالى الليل سكناً تسكن فيه الخلائق، وجعل النهار لخروجهم وطلبهم الرزق في الأرض، فكيف كان الحال لو جعل الله تعالى النهار سرمداً، بلا ليل نسكن فيه؟

وتأمل لو جعل الله الليل سرمداً إلى يوم القيامة، كيف سيكون حالنا، والظلام يغطي الكون وأمور معاشنا متوقفة، ولهذا نبه الله سبحانه عباده إلى التأمل والنظر في هذه الآية بقوله تعالىقُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ﴿٧١﴾  قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿٧٢﴾ [القصص:71-72] .

لاشك أن ذلك آية على ربوبيته جل وعلا ([13]) .

وآية أخرى في النوم الذي لا يستطيع أحدٌ تفسيره، والوقوف على حقيقته، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن يعيش الإنسان دون أن ينام ([14]) .

كما ثبت طبياً الفرق الكبير بين نوم الليل، ونوم النهار، إذ إن نوم الليل لـه فوائد صحية، وينال الجسم فيه راحته بعيداً عن الضوضاء والصخب ([15]) .

ومن الآيات أيضاً تعاون الليل والنهار على تحقيق مصالح الخلق. مع اختلافهما، وما بينها من التضاد، وهذه كلها آيات على ربوبية الخالق سبحانه وتعالى ([16]) .

 

5- ما خلق الله في السماوات والأرض:

قال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴿٦﴾ [يونس:6].

وهذه آية أخرى، وماذا عساك أن تحيط به مما خلق الله في السماوات والأرض؟! قال تعالى قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿١٠١﴾ [يونس:101].

أولاً: الدلائل السماوية:

من كواكب، وأفلاك، وأحوال المطر، والرعد، والبرق، والصواعق .. وغير ذلك مما هي آيات بينات على خالقها ومدبرها سبحانه وتعالى.

فتأمل تلك الكواكب العظيمة، التي تفوق حجم الأرض آلاف المرات، بل قد تبدو الأرض بالنسبة لها كحبة الرمل، ولاشك أن عظمتها تدل على عظمة خالقها سبحانه ([17]) .

وتأمل كذلك النجوم الزاهرة التي زين الله بها السماء الدنيا فقال سبحانه وتعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴿٦﴾ [الصافات:6] ، ومع ذلك فهم يهتدون بها في ظلمات البر والبحر، ويستدلون بها على القبلة، ولهم فيها منافع أخرى. " وهذه الكواكب مختلفة في صفات كثيرة فبعضها سيارة، وبعضها ثابتة، والثوابت بعضها في المنطقة وبعضها في القطبين، وأيضاً الثوابت لامعة والسيارة غير لامعة، وأيضاً بعضها كبيرة درية عظيمة الضوء، وبعضها خفيفة قليلة الضوء" ([18]) وهذه النجوم والكواكب متباعدة بعضها عن بعض بمسافات هائلة، لا تحسب إلا بالسنة الضوئية ([19]) ، وهناك عدد كبير من النجوم لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة.

ثم تأمل المطر النازل من السماء على شكل نقط صغيرة، لا تؤذي من سقطت عليه، ثم تتحول إلى أنهار وينابيع، عذبة طيبة المذاق ([20]) .

ومن الآيات في خلقه أيضاً كونه سبباً لحياة الأحياء، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴿٣٠﴾
[الأنبياء:30].

كما جعله سبحانه من الأسباب في رزق العباد قال جل ذكره: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴿٢٢﴾
[الذاريات:22] .

ومن الآيات أيضاً ذلك السحاب المحمل بكميات هائلة من الماء، ومن ذلك يظل معلقاً بين السماء والأرض إلى أن يأذن الله تعالى بنزوله، وهذا من أعظم الآيات ([21]) ، وتأمل هذا الماء الساقط تجده عذباً حلواً، فإذا خالط مياه البحار والمحيطات عاد مالحاً، وهذا من الحكم العظيمة الباهرة، إذ لو كان ماء البحر عذباً لصعب على الكائنات الحية من أسماك وغيرها أن تعيش فيه، وذلك بسبب العفونة والفساد الذي ينشأ من القاذورات الساقطة فيه، فلما كان مالحاً، صار وطناً صالحاً لما يعيش فيه من كائنات حية وما يستخرج منه من منافع. وتأمل حال البرق، والرعد، والصواعق، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴿١٢﴾ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴿١٣﴾ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [الرعد:12-14].

فهذه من الآيات العظيمة الكثيرة، لم تأملها بعين البصيرة والتفكر، فهاهو البرق ضياء لامع، بارق يكاد يخطف الأبصار، وقد ذكر العلماء بأن له علاقة وثيقة بتسميد التربة، وتغذية النبات، وذلك بزيادة مركبات النتروجين فيها، وهو عبارة عن شحنات كهربائية يتم تفريغها بقدرة الله وعظمته، وعند التفريغ نسمع صوت الصواعق ([22]) .

فلنتأمل: هذه الشحنات الكهربائية ما مصدرها؟! وكيف تكونت؟! وما الذي جعل فيها هذه القوة؟! وما هو هذا التيار الكهربائي الذي لا نرى إلا آثاره؟! لاشك أنها عظمة الله تعالى



([1])   انظر اقتضاء الصراط المستقيم، ص464-465، ومدارج السالكين (3/449).

([2])   لسان العرب: مادة (ربب) وهو من كلام أحمد بن يحيى (1/399).

([3])   عبدالرحمن بن محمد بن عبيدالله الأنصاري، أبو البركات كمال الدين الأنباري: من علماء اللغة والأدب وتاريخ الرجال كان زاهداً عفيفاً .. سكن بغداد وتوفي فيها، الأعلام (3/327).

([4])   لسان العرب: (1/400-401).

([5])   جامع البيان لابن جرير (2/62).

([6])   انظر التبيان في أقسام القرآن لابن القيم، (ص186).

([7])   انظر: المرجع السابق، (ص176)، ومفتاح دار السعادة لابن القيم (1/221).

([8])   فتح القدير للشوكاني (2/423).

([9])   انظر العلم يدعو للإيمان، أكريسي موريسون ص55، والله جل جلاله لسعيد حوى،ص40.

([10])   سبعون برهاناً عملياً على وجود الذات الإلهية (1/133).ٍ

([11])   انظر كتاب التوحيد للزاندني (2/141).

([12])   انظر تفسير المراغي (4/68)، وسبعون برهاناً على وجود الذات الذات الإلهية
(1/117).

([13])   انظر مفتاح دار السعادة (1/203).

([14])   أجرى د. (هارولد ويليامز) تجربة ملخصها أنه "قام بتجربة .. على جماعة مكونة من خمسة وعشرين رجلاً تطوعوا بالبقاء مستيقظين فترات تصل إلى مائة ساعة، أي أكثر من أربعة أيام. ودلت التجربة على أنه لم تطرأ عليهم أعراض خطر خلال اليومين الأولين .. ولكن المتاعب بدأت بعد يومين فقد تبين للمتطوعين أن أصبح من الصعب عليهم أن يركزوا انتباههم، وأصبحوا سريعي التهيج بدأ بعضهم يرى صور الأشياء مزدوجة، كما عانوا أيضاً من هلوسة غريبة .." ثقافة طبية (ص14)، نقلا عن كتاب سبعون برهاناً (1/128).

([15])   انظر مع الطب في القرآن، (ص105-106).

([16])   انظر تفسير الفخر الرازي (4/215).

([17])   انظر العقيدة في الله، د. عمر الأشقر، (ص145).

([18])   تفسير الفخر الرازي (13/106).

([19])   السنة الضوئية حوالي: "6 مليون مليون وهي المسافة التي يقطعها الضوء في عام" هندسة النظام الكوني في القرآن، ص16.

([20])   انظر المرجع السابق، ص15-16، وص 24، وكتاب التوحيد للزنداني (2/134).

([21])   انظر تفسير الفخر الرازي (4/219).

([22])   انظر: سبعون برهاناً علمياً (1/163-164، 171)، وانظر الله والكون د. محمد جمال (ص156، 159).