ثانياً: الدلائل الأرضية:

بما في ذلك من أحوال النبات والحيوان والبحار والمعادن .. فتأمل أحوال النبات وما فيه من عيب صنع الله، إذ يسقى بماء واحد، ومع ذلك اختلفت ألوانه، وتباينت أشكاله، وتفاوت طعمه فهذا عنب، وهذا تمر، وهذا زيتون .. فسبحان الخالق الذي أتقن كل شيء خلقه ([1]) .

قال تعالى:

قال تعالى: { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ { [الرعد:4].

 

 }وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {[الأنعام:99].

 

وتأمل ما خلق الله تعالى من أنواع الحيوانات، فمنها ما يركب ومنها ما يحلب، ومنها ما يتغذى عليه، ومنها ما يحرس الإنسان وغير ذلك ما هو آية دالة على خالقه تبارك وتعالى ([2]) .

وتأمل اللبن الذي يخرج طعاماً لذيذاً سائغاً للشاربين، مع أنه يخرج من بين الدم والفرث، مع اختلافه عنهما لوناً وصفة ([3]) ، قال تعالى:
 }وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ { [النحل:66] .

وانظر إلى البحار، والأنهار، والعيون وما أودعه الله فيها من عجائب الأسرار، حيث إن البحار تغطي حوالي ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، ولولا إمساك الله جل وعلا الماء لطفح وغطى جميع أرجاء المعمورة ([4]) ، وتأمل الأرض، وما فيها من آيات كما سبق بيان بعض ذلك ([5]) .

لاشك أن هذه الدلائل السماوية والأرضية كلها تدل على ربوبية الله تعالى وعظمته.

 

6- جريان الفلك في البحر

قال تعالى: }هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ{ [يونس:22].

 

ويقول تعالى في سورة إبراهيم:} اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ { [إبراهيم:32].

 

وقولــه تعالى في سورة الشورى : }وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ   {[الشورى:32].

وهذه آية عظيمة من آيات الله، فلهذه المخلوقات خواص معينة، تجعلها تظل باقية على سطح الماء، ولو اختلفت هذه الخواص التي أودعها الله تعالى في هذه المخلوقات ما جرت السفن على الماء، ومن هذه الخواص كثافة الماء، وضغط الهواء، والتيارات المائية والهوائية، ودرجة الحرارة، وغير ذلك من الخواص التي ذكرها العلماء ([6]) وهذه الآية تدل على الربوبية من وجوه:

إن هذه السفن، وإن كانت من تركيب الناس غير أن الله تعالى خالق آلاتها، فلو لم يخلق آلاتها لم يكن هناك سفن أصلاً.

الثاني: إن الرب تعالى يحركها بواسطة الرياح التي لو سكنت، لسكنت السفن عن الحركة، كما ذكر تعالى في قوله:} إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ{ [الشورى:33]

ثم إن هذه الرياح لو كانت ريحاً عاصفاً، لغرقت الفلك بمن فيها، فهذا من رحمة الله عز وجل.

الثالث: إنه عز وجل أودع هذه المواد من الخصائص، والصفات التي لو اختل ميزانها أو تغير لما استطاع أحد أن يركب البحر.

الرابع: إنه عز وجل خصَّ كل قطر من أقطار العالم بشيء معين، وأحوج الكل إلى الكل فصار ذلك داعياً إلى ركوب البحر وتحمل المشاق.

الخامس: تسخير الرب تعالى البحر لحمل السفن، مع قوة سلطانه، إذا هاج، وما فيه من أهوال.

السادس: ما في هذه البحار من الحيوانات والمخلوقات العظيمة، ومع ذلك يخلص منها السفن، ويوصلها بالسلامة ([7]) .

7- الريـاح:

قال تعالى: } حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ{ [يونس:22]

فهذه الرياح التي تملأ الكون، خلقها الرب عز وجل لحكم عظيمة وهي من آيات ربوبيته.

وهي أنواع ذكرها الله تعالى في آيات كثيرة، ومتفرقة في القرآن الكريم، بل وأقسم بها في مواضع، وذلك لشرفها، ولما فيها من بديع صنعه وكمال قدرته.

فمن أنواع الرياح، النوع الذي يسير الفلك في البحر، وهو مذكور في سورة يونس في الآية التي سبق ذكرها. والريح العاصف وهي مذكورة في الآية السابقة أيضاً. ومن أنواع الرياح أيضاً ما ذكره الله تعالى في أول سورة المرسلات – على اختلاف العلماء في تأويلها ([8]) قال تعالى:
{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴿١﴾ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ﴿٢﴾وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ﴿٣﴾فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ﴿٤﴾فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ﴿٥﴾} [المرسلات:1-5] .

 

ومن أنواع الرياح، الرياح اللواقح التي تقوم بتلقيح الأزهار ([9]) فتكون بعد ذلك الثمار، قال تعالى{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بخَزِنِينَ }  [الحجر:22].

وهذه الرياح كما أنها تأتي رحمة، وبشرى، فهي قد تأتي عذاباً ونقمة قال تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ﴿٤١﴾مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴿٤٢﴾} [الذاريات:41-42].

لاشك أن هذا كله من آيات الله العظام.

8- الرزق

قال تعالى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ  فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ  فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } [يونس:31]. .

فالرزق من آيات الله العظيمة في هذا الكون، فانظر إلى رزق الأجنة في الأرحام، كيف يصل إليها عن طريق الحبل السري، وعندما تخرج من تلك الظلمات الثلاث، يفتق لها ثدي الأم فيخرج لبناً صافياً عذباً، يحوي جميع المواد الغذائية التي يحتاجها البدن، فإذا اشتد العود، نبتت الأسنان فتغذى البدن بعد ذلك على الخيرات العظيمة التي تخرج من الأرض، وكما رزق الإنسان رزق الأسماك في أعماق البحر والدود في جوف الصخر، وكذلك ساق غذاء الحشرات التي لا تكاد ترى بالأبصار، وخلق لها وسيلة التقاط الغذاء إما بالمنقار، وإما بالمخالب، أو الخراطيم كلٌ وما يناسب الخلقة التي خلقه الله عليها ([10]) ، ولهذا يقول جل ذكره{مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود:6].

ويقول جل ذكره {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ  هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ  لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ  فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } [فاطر:3].

9- خلق السمع والبصر:

قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاءِ والأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصَرَ } [يونس:31].

إن ما خلق الله عز وجل في هاتين الحاستين، لعالم وحده، وإن فيهما من دقيق وعجيب صنع الله، ما لا يمكن أن يخطر على بال.

وفي التعبير عنهما بالملكية مع أنه مالك لكل شيء فيه إشارة إلى أن الإنسان بهاتين الحاستين يتعلم، فهما من أظهر الحواس في الإنسان إذ بدونهما لا يمكن له المعرفة والتعلم، فهما وإن كانتا من أسباب تفضيل الإنسان، وترقيه في العلم والمعرفة، فهما تحت تصرف الرب تعالى وفي ملكيته، وهو قادر على سلبهما ([11]) .

والمتتبع لآيات القرآن الكريم يجد تقديم السمع على البصر في جميع المواطن التي ذكرت في القرآن، عدا ما جاء في سورة الكهف في قولـه تعالى:  {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } [الكهف:26]

 ومن الحكمة في هذا – والله أعلم – كما ذكرها بعض العلماء:

-       إن الآيات السمعية، إنما تدرك بالسمع دون البصر، وهي أعظم الآيات، ولذلك قدم السمع على البصر.

-       إن وظيفة السمع تبدأ قبل وظيفة الإبصار في الجنين كما ذكر ذلك الأطباء.

-       إن تعلم النطق يتم عن طريق السمع، وإذا ولد أصم فإنه يصعب عليه الانسجام مع المحيط الخارجي، بعكس البصر، فالإنسان قد يتعلم وهو أعمى، وكثير من عباقرة وأذكياء العالم كانوا عمياناً.

-       إن الأُذن تقوم بوظيفة السمع، وتقوم بوظيفة أخرى، وهي التوازن في الجسم، أما البصر فله وظيفة النظر والرؤية فقط ([12]) .

والأذن تتركب من الأذن الخارجية، والأذن الوسطى، والأذن الداخلية، وقد احتوت جميعاً على بديع خلق الله عز وجل، وعجيب صنعه، فتأمل الأذن الخارجية، كيف خلقها الله تعالى على شكل صدفة كثيرة التعاريج؟‍ لتجميع الذبذبات الصوتية وتكسر من حدتها، ثم تنقلها إلى القناة الغضروفية، ثم إلى غشاء الطبلة ثم إلى المخ فيترجمها إلى حروف وأصوات، فسبحان من أتقن كل شيء خلقه ([13]) .

ثم تأمل حاسة البصر وما فيها من دقيق الخلق فهي مكونة من ثلاث طبقات، تحوي من الأغشية، والأوعية الدموية، والأنسجة ما تحار فيه العقول، فمثلاً "العين الواحدة حوالي (140) مليون مستقبل حساس للضوء، وهي تسمى بالمخاريط والعصي، وطبقة المخاريط والعصي هذه هي واحدة من الطبقات العشرة (0.4مم). ويخرج من العين نصف مليون ليف عصبي فينقل الصورة بشكل ملون" ([14]) .

وتأمل أيضاً هذه الرموش والجفون التي تحيط بالعين، وذلك لحفظ العين ووقايتها، وانظر إلى هذه الغدة الدمعية، التي لم يخلقها الرب جل وعلا عبثاً، فقد ذكر العلماء من فوائد الدموع، تخفيف شدة الحزن، وترقيق القلب وتطهيره إذا كانت من خشية الله، بالإضافة إلى ترطيب العين وتنظيفها من الميكروبات والأتربة إذ تحوي مواد مطهرة ([15]) .

ومن الآيات أيضاً في خلق العين ما جعل الله لهذه العين من قوة الإبصار حتى في الضوء الخافت.

ومن الآيات أيضاً رؤية بعض المخلوقات لبعض الأشعة التي لا يراها الإنسان من ذلك مثلاً: رؤية النحل للأشعة فوق البنفسجية، ورؤية البومة للأشعة تحت الحمراء ([16]) ، فسبحان الخلاق العليم.

 

10- إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي:

قال تعالى:  {أَمَّن يَملِكُ السَّمعَ وَالأَبصٰرَ وَمَن يُخرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمرَ } [يونس:31].

وهذا مشهد آخر من مشاهد هذا الكون، وهو مألوف لدينا، نراه ويتكرر أمامنا عشرات المرات، ولهذا تبلد الحس تجاهه، فضعف الشعور بمعاني العظمة ودلائل الربوبية فيه، وإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي تتعدد معانيه كما ذكرها المفسرون:

فمنها: إخراج الإنسان الحي من النطفة، والعكس، وكذلك إخراج الطائر الحي من البيضة، والعكس.

ومنها: إخراج المؤمن من الكافر والعكس والمؤمن بمثابة الحي، والكافر بمثابة الميت.

ومنها إخراج النبتة الحية من البذرة الميتة ([17]) .

ولو قال قائل: إن النطفة،والبيضة، والنواة، تحتوي على مادة الحياة، كما ثبت في العلم الحديث، فالجواب على ذلك أن يقال: لنعد إلى نشأة الحياة فهل كان هناك مادة للحياة أصلاً؟ فالجواب قطعاً لا. ولا يستطيع أحدٌ الإجابة بنعم، إذ لو قال ذلك للزم الدور والتسلسل وهذا باطل.

ثم إن في حياتنا اليومية الكثير مما نشاهده دليلاً واضحاً على ذلك فمثلاً الطعام الذي يتناوله الحي أليس ميتاً؟، ومع ذلك يتكون منه المني والمبيض، ويتحول في الجسم إلى خلايا حية من جنس خلايا الجسم، فهذا إخراج الحي من الميت، وأما إخراج الميت من الحي فمثاله خروج اللبن وغيره من الحي، وهذه شبه يثيرها الملاحدة، ليشككوا في صحة الوحي وأقوالهم مردودة، كما أنه ليس شرطاً موافقة القرآن الكريم لكل نظرية علمية، فكثير من هذه النظريات التي اعتقد الناس صحتها، ثبت بطلانها ومخالفتها للواقع ([18]) .

وعلى العموم فإن ظاهرة إخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي من الدلائل الكونية، الدالة على وحدانية الرب وعلى قدرته على الخلق والإعادة.

 

 

11- بدء الخلق وإعادته:

قال تعالى {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } [يونس:34].

ومعنى الآية "من ينشئ خلق شيء من غير أصل، فيحدث خلقه ابتداء ثم يعيده؟ يقول: ثم يفنيه بعد إنشائه، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيه فإنهم لا يقدرون على دعوى ذلك ([19]) .

فمن من الآلهة المزعومة يستطيع أن يفعل ذلك {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴿٧﴾إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴿٨﴾قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا  ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٩﴾} [فصلت:7-9].

ومما يبين ما في بدء الخلق من الآيات العظام، إن الإنسان إلى الآن لم يستطع التوصل إلى مراحل نشأة الكون، وكل نظرية تظهر تتعارض مع سابقتها، فمنهم من قال: "ترجع نشأة السيارات (الكواكب وتوابعها) حول الشمس إلى صدام مروع حدث بين الشمس ونجم هائل أدى إلى تناثر أجزاء من الشمس بالانجذاب نحو هذا النجم، وبردت تدريجياً حتى صارت صلبة، ودارت حول نفسها من هول الصدام" ([20]) وهذه هي ما يعرف بنظرية التصادم، وظهرت بعدها نظرية أخرى تعرف بنظرية المدَّ الغازي، وتنص على: "أن مسألة انفصال الكواكب عن الشمس شيء سليم، ولكن ليس بالتصادم، وإنما تم الانفصال أثناء مرور نجم قريباً ([21]) من الشمس وجذبه إياها .." ([22]) .

وهناك نظريات أخرى تدل على مدى تخبط الإنسان وجهله في معرفة حقائق هذا الكون ([23]) . وتأمل في بدء الإنسان: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ  أَفَلَا تُبْصِرُونَ } [الذاريات:21]

فقد بدأ خلقه من نطفة مهينة، لو تركت شيئاً من الوقت خارج الجسم لفسدت، فانظر كيف حفظها الباري، وأكمل خلقها حتى خرجت في أحسن تقويم، وهذه النطفة عبارة عن خلية واحدة نشأت من اتحاد الحيوان المنوي عند الذكر مع البويضة عند الأنثى، فنتج عن ذلك "الأمشاج" أي البويضة الملقحة، ثم تأمل ما يحصل لها من التطورات، حيث يزداد عدد الخلايا، وفي خلال خمسة أيام أو أسبوع تعلق بجدار الرحم في النصف العلوي منه، ثم تتوالى مراحل نمو الجنين متتابعة ([24]) كما صورها الله تعالى في القرآن الكريم في آيات كثيرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } [الحج:5]. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴿١٢﴾ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴿١٣﴾ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴿١٤﴾} [المؤمنون:12-14] .

وفي الحديث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله e : "إن الله عز وجل قد وكل بالرحم ملكاً يقول: يا رب: نطفة. يا رب: علقة.    يا رب: مضغة، فإذا أراد أن يقضي خلقه قال: أذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ وما الأجل؟ فيكتب في بطن أمه" ([25]) وتأمل هذا الدم الذي يجري في عروقك، وما هي محتوياته؟ التي من ضمنها كريات الدم الحمراء التي ذكر العلماء بأنك لو وضعتها في صف بجانب بعض لأحاطت بالأرض (5-6) مرات، وتقطع في عروق البدن مسافة تصل حوالي 1150كم ([26]) "ويستهلك الجسم من خلايا (125) مليون خلية في الثانية الواحدة .. وبنفس الوقت يتشكل ويتركب نفس العدد من خلايا تقريباً .." ([27]) لاشك أن هذا كله يدلنا على الخالق العظيم، فسبحان من خلق فسوى، وقَدّر فهدى، لاشك أن من قدر على البدء قادر على الإعادة من باب أولى إذا اقترن الإيمان بالربوبية، بالإيمان بالبعث.

قال تعالى: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يونس:56].

وقال تعالى: {اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۚ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [التوبة:116].

وسيأتي الحديث عن البعث في الباب الرابع إن شاء الله تعالى.

والواقع أن دلائل الكون شاهدة بوجود الرب تعالى، وربوبيته، وهذا لا ينكره إلا الملاحدة، حتى الحيوانات تشهد بذلك، فهاهو الهدهد يستدل على صحة توحيده بإخراج الله تعالى الخبء وهو الماء من السماء والأرض.

ويخاطب سليمان – عليه السلام – بأعظم التوحيد في قوله تعالى{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴿٢٥﴾اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۩ ﴿٢٦﴾} [النمل:25-26] ويستدل بذلك أيضاً على أن معرفة الله تعالى فطرية لا تحتاج إلى نظر أو استدلال كما سيأتي في المبحث القادم – إن شاء الله – .

 



([1])   انظر كتاب التوحيد للشيخ عبدالمجيد الزنداني (1/33).

([2])   انظر مفتاح دار السعادة (1/206).

([3])   انظر التفسير القرآني لقرآن لعبدالكريم الخطيب (14/321).

([4])   انظر مفتاح دار السعادة (1/204)، وسبعون برهاناً (2/286-272).

([5])   انظر ص(14-15).

([6])   انظر تفسير الآيات الكونية د. عبدالله شحاتة، (217)، وطريق الإيمان لسميح عاطف، ص59.

([7])   انظر تفسير الرازي (4/218).

([8])   انظر تفسير ابن كثير (7/189).

([9])   انظر جامع البيان (14/20، 22).

([10])   انظر تفسير المنار لمحمد رشيد رضا (12/12-13)، والإيمان للزنداني وآخرين، ص42-44.

([11])   انظر التفسير القرآني للقرآن (11/100).

([12])   انظر قطر الولي على حديث الولي للشوكاني ص439، ومع الطب في القرآن،
ص53-54.

([13])   انظر تفصيل ذلك في كتاب خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد البار، ص324.

([14])   مع الطب في القرآن، ص41.

([15])   انظر خلق الإنسان بين الطب والقرآن، ص340 وانظر 338-339.

([16])   انظر العقيدة في الله، د. عمر الأشقر، ص138.

([17])   انظر زاد المسير (1/370).

([18])   انظر فيما سبق: تفسير المنار (11/356-357)، ومجلة الأزهر العدد 8 شوال
1396هـ ص (1281-1282)، ومع الطب في القرآن، ص55.

([19])   جامع البيان (11/115).

([20])   هندسة النظام الكوني في القرآن، ص116.

([21])   كذا بالأصل والصحيح قريب.

([22])   المرجع السابق، ص117.

([23])   انظر المرجع السابق، ص118.

([24])   انظر خلق الإنسان بين الطب والقرآن، ص195، وما بعدها.

([25])   رواه البخاري في كتاب الحيض، باب مخلقة وغير مخلقة رقم: 312 (1/121)، ورواه في كتاب الأنبياء باب قولـه تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" رقم: 3150 (3/1213) عن مسدد بنحوه، ورواه مسلم في كتاب القدر باب كيفية الخلق لآدمي في بطن أمه رقم: 2646 (4/2038)، واللفظ لمسلم.

([26])   انظر مع الطب في القرآن، ص39.

([27])   المرجع السابق، ص40.